في البدء كان الفقد
(1)
ليس ثمَّة ما يُقالُ عبرَ النَّشوةِ الكاملةِ، وأمام النيران المقدسة في قلبها .. نيرانٌ اتَّحد فيها الأملُ واليأسُ، فشعرت بأنه لا يمكن أن تحاصر فرصتها حدود .. لا الزمان ولا المكان؛ بدت أقل كثافة من الوردة الواثقة من هدوئها .. وكأنها شجرةٌ من الألوان، والضوء، والعبير المتنوع .. شجرةٌ لا تأكلُ غيرَ شمسِ الشتاءِ في دفء خيرها المبسوط بضراعةِ على العُشب، وعلى كلام الرُّوح البردان.. هي تنتظر.. تنتظر، بلهفةٍ، الدكتور أسامة؛ حبيبها الذي سيراود الأمل في قلبها بلا ضغينة، وسيُسْقِطُ أحزانَها في هوَّة النسيان .. هكذا مسحت بعيونها أروقة المقهى قبل أن يأتي، .. وهو.. قد أطال التأخير، .. لكنها لمحته من بعيد ومعه زوجته وابنته قَدِمُوا إليها ليودعوها فهم مسافرون إلى باريس لقضاء العطلة هناك، تركها وحيدة بقلب وحيد، وبين يديها الحب الخالي تُلَمْلِمُه مع خيبات الحب المتكررة التي تشبثت بيافوخها ولم تسقط في وادي النسيان .. باحثة عن حبٍّ حلمت بوجوده .. ففقدته.
***


(2)
كيف لا أتركُ كوابيسي ملتصقةً على الجدرانِ قبل الطلاء، وأنفي العالمَ كلَّه خلف مدينتي المُتْرَعَةِ بالشموس، والأنهار، والليالي، والحب الذي بألف عين .. ترنو إلى نجمة آفلة، لكنها غفت فدخلت في نوم هادئ بقرب نافذة تطل على الحديقة .. النسيم العليل يلعب بخصلات شعرها، أَنِسَتْ لذلك، أيقظتها ردةُ الشباك عندما عصف بها عاصف، طار الحلم ففتحت عينيها لليقين والشك.. ولعرق الضوء المنسدل على ملامحها الرقيقة، فإذا هي أمام الحديقة، وجَمْعٌ من الأطفال بالأسفل ينادون ويصفقون؛ ..قد خرجوا من أحد البيوت، حفلة عيد ميلاد، قد أيقظها العاصف الطري بلفتةٍ حنونةٍ، وكأنها قد عاشت لحظات رومانسية فلامست أرجاء نفسها وروحها، لكن صيحات الأطفال مزعجة ومربكة للنفس، وكأن نفسها انتقلت من هدوئها إلى صخب وصداع .. كأنها كانت تحلم بعالم آخر دون ضجيج، فمن يسرق منا تلك اللحظات؟ من ثَبَّتَ في جَدائلِ الصبايا خرافةَ الحُبِّ، وهي التي بدت كشبكة صياد مُهترئة؟ ..فخرافةُ الحبِ ليلٌ صهدُه يُدْمي القلوب والعيون، ويمسكُ الزمنَ بين ساعاتِه ويلهو به فوق أشجار الروح المصبوغة عتمة، فيا قلبي لا تسند رأسَك على وردة الصباح .. وردة الحب، ذهبت شادية يتأملاتها إلى أبعد أريكة للوحدة في مكانها الرومانسي المعتاد على ضفاف حديقتها، وخرير ماء شلالها يَدقُّ عظامَ الروح .. تأتي صديقتها مني:
- الله على عالم شادية الغامض.
- أهلا مني.. أتيت ولم أشعر بك.
- لا تشعرين بالطبع فعالمك غريب.
- عالمي ليس غريبًا ..إنني أعيش مع عالم غريب.
- الله الله .. نحن نعيش الواقع وأنت أسيرة التأملات.
- لقد خابرني حازم، وطلب مني أن أكلمك عن سبب هجرك له.
- ماذا يريد بعد؟؟ مللت المطاردة والسراب!
- ما أعرفه أنك تهوين التأمل وتعشقين الحب ومن يمر عليه.
- وضعي مع حازم مختلف تماماً، له التزاماته وأسرته ويريد الاستمرار في الحب. أي حب أعيشه وأنا أعلم أن لي شريكة فيه، أخبريه أن ينساني ويدعني أبحث عن حب لي أمتلكه وأغمض عيناي عليه، يكون طوال الوقت معي .. لا يخشى أحدا وهو معي. يرن هاتفها يظهر رقم حازم فتدعه يرن .. تخطفه مني وترد:
- أهلاً حازم.. أَنَّنِي في زيارة لشادية .. أوصلتها رسالتك لكنها تطلب أن تنساها.
- إنها عمري .. روحي.
تعطي مني الهاتف لشادية..
- نعم ألم تسمع قولي..
- نعم يا نغم حياتي .. نعم يا روحي .. نعم يا حبي.
- لا تعذبني .. أنت لأمرأة أخرى، وما أنا سوى لحظات تتسلى بها وقت هروبك من البيت .. لعبة مغرية مليئة بالأحاسيس التي لم تستنفذ، فتحب دائما أن تكاشف الأغطية المخبأة؛ لذلك تسعد بسماع صوتي.
- ماذا أفعل؟..حظي عاثر .. مجمد في برادة وأنت الحياة .. أنت الدفء والحنان، أرجوك أريد أن أقابلك حتى نضع حلاً لحبنا الضائع بين رفضك وحظى التعيس.
- لابد لك من يوم ستنساني، وتفكر بأخرى تنسيك زوجتك وحبيبتك التي تبحث عن حب مختلف قد لا يكون له وجود.
تقفل الخط فيرن من جديد، ويرن، ثم تقفل الجهاز..تجابهها منى بالصراخ:.. لم فعلت هذا, إنك في منتصف الثلاثنيات ولا يمكن أن تجدي غير متزوج سواء أرفضت حازم أم غيره.
-كلهم كذابون, أوهمني بأنه غير متزوج ولما اكتشف مثل دور قيس, ولو افترضنا بأنه لا يحب زوجته... قطعا عندما تزوجها كان يحبها، ثم بعد تكرار كشف الأغطية مَلَّ منها... ويريد أن يكشف غطاء آخر,... كلهم يقولون هكذا.
***
(3)
ما بين ضبابِ القلبِ وضبابِ لندن كلماتٌ وأوراقٌ وأشجارٌ واثقةٌ، وهذا علي الأقل أفضل لي من أن أتوسل عزلة كاملة, أو أموت واقفة في الريح.. فإلى متى سأظل أحلم بوردة الصباح.. وردة الحب المفقودة؟! وأيةُ بلاهةٍ تلك التي تجعلُني أحرسُ سنواتي بعناية تفوق الحذر من حقل ألغام؛ حتى لا يتلصَّصُ أحدٌ علي جسدي... أو أترك شمس الصباحِ القونية كي تُحَمِّمَني.. سأمضغ الوجعَ بالدِّراسةِ.. وسأصطحب خالتي، وأدرس الحب الرومانسي في الأدب الغربي موضوعا للماجستير.
التقت بالدكتور المشرف أسامة..من أصل عربي..من بلدها نفسه..، ويحمل الجنسية الإنجليزية.. رحب بها ..دعاها لبيته هي وخالتها، بدت لها زوجته الإنجليزية أكبر منه سِنًّا ولديها طفلة واحدة, أمضيا ليلتهما بترحيب من الدكتور أسامة والدكتورة زوجته... ماريان ..أمضت شادية لحظات متأملة حظ هذه المرأة الإنجليزية, الرجل وسيم ومتعلم ويصغرها بكثير, هل هو سعيد معها؟ ..كيف التوافق بينهما؟ ..أفاقت من شرودها علي دعوتهما لتناول طعام العشاء الذي حضراه سويًّا, وهي على المائدة تفكر وتتساءل: لو كان في بلده هل سيحضر الأكل مع زوجته العربية, أم أنه- مرغمًا- يُساير حضارةً هو دخيلٌ عليها.. بدت تسترق النظر إلى الدكتور بكل انتقام لنفسها التائهة..الهاربة من وداع حب لم تمض عليه أيام..علي قدر ما تركتْ وضَحَّتْ بحبِها لحازم من أجل أسرته علي قدر ما تريد أن تخطف هذا الرجل وبسرعة من هذه العجوز الإنجليزية.
لم يغمض لها جفن... أمضت ليلتها تبكي وتجفف فوضى الحكمة وقنديل الفجر المشروخ..وعند ذهابها للجامعة مرت علي مكتبه فبدا مشغولا, لكنها مصممة أن تلفت نظرة.. جلست حتي فرغ من مكالمته.. رحَّبَ بها.. دعته علي فنجان قهوة في مقهي لبناني يجعل الموسيقي تتلفت مع حوارات عينيها, ويقود الظهيرة إلى عتبات الفجر بكل اطمئنان.. أراد أن يعتذر، لكنها جذبته برقة، وذهبا بسيارتها الجاكور.. جلسا معًا... تبدو لنفسها غريبة.. متحررة في بلد أكثر تحررًا, خجل الدكتور كما بدا لها بالكلام المفر ط في جديته, فسألته عن زواجه من أجنبية وهو عربي.
- يحكم دراستي مع ماريا؛ فَكُنَّا زميلين في الجامعة وتزوجنا.
- عن قصة حب؟.
- هل يوجد بالدنيا قصة حب غير بالأفلام.. فالحياة وإن بدأت بقصة حب جارفة ومضنية لا بد مع الأيام أن تتحول إلى روتين مُمِل, فلا أصدق بالحب؛ لأنه سيتحول إلى طقسٍ عادي بعد الحصول عليه.
- يبدو أن تعمقك بعلم النفس البشرية يجعلك تري الحقائق عارية.
- إنها الحقيقة, يبدو انك تحلمين بالروايات, والعشق العذري عند العرب, وقصص الحب التي لم تتحقق, من المكن ذلك، لكنها ما إن تتحقق، وترينها عارية أمامك بالزيف ستعرفين.
- لكنني لا أتخيل نفسي مرتبطةً بإنسان عن غير حبٍّ.
- من الممكن ذلك.. لا يمكن لإنسان أن يرتبط من غير حب لكن الحياة والتعامل معها يغير أوجه الحب ولا تكون صافية دوما.
- أتسمح لي كل يوم خميس أن نكون سويا.. نتناقش بأمور قد أجهلها.. أستفيد من تجاربك.. أَنَّنِي بحاجة لذلك.
- لا مانع عندي.. هل نرجع للجامعة؟ لقد تأخرت.
***
(4)
مُكابِرَةٌ هذه المَرَّة.. تُعلن الرفضَ للخيبة.. كيف لا يجوع، أو يشعر بجوعٍ، أمام يدي الناعمتين اللتين من بنفسج وماس, وعينيّ اللتين تُشبهان الربيع؟ لن أدع بقع حبه الأخيرة تسقط علي الأرض, وسأضع له طوقًا من انتظاري إذا ذهب إلى أي مكان.. وسأقود عينيه إلى أَنْغم تنهيدة؛ كي تغرق في تضاريسِ حواسي التي لا تَهرم.. أنا الهزيمةُ والنَّصر.. سيترك ماريا من أجلي.. أصبحتْ إنسانةً أُخرى.. تركت حبها طواعية لتتعلق بحب آخر لم يرها.. نالت الماجستير بتفوق ولا تريد الرجوع لبلادها، فقد استقرت هناك, لن تفرحَ بنجاحها قبل أن تري الدكتور أسامة هاتفها ليبارك:
- مبروك يا آنسة شادية.
- دكتور أسامة؟ لم أفرح بنجاحي.
- لماذا؟
- أردت أن أنجح لأجلك.. أهدي نجاحي لك..إنني أحبك يا أسامة.
- ؟؟؟
- منذ أن رأيتك..
يصمت الدكتور أسامة..
- اتسمعني.. أَنَّنِي أحبك..إنني بعكس تيار البشرية أنطقها..أحبك بإحساسي واقتناعي..لا أنام .. أحلم بحديثك .. بنظرة عينيك.. بوجودك.. بغيابك, هل تحمل نفس الإحساس؟، أم..أم تراني أحلم بحب ضائع لا يمكن لي أن أجده.. الرجل هو الذي يقول أحبك، لكنني أقولها بكل إحساس المرأة القوية لا أتصور نفسي أنجرف لك بهذه القوة, إنك تأسرني حتي في غيابك, رُد عليّ.
- فاجأتيني بكلامك, ما هذا؟ ظننتك مختلفة ما أشعر به الآن يذكرني بقولك أنه أراد الزواج منك شاب متزوج، فرفضتيه؛ لأنه متزوج, ورفضت حبه القوي الذي جعلك تسافرين لتنسيه.
- هل قلت ذلك؟! لقد نسيت.. نعم.. حصل ذلك.
- عمومًا سأراك غدًا في المقهى.

بقلم / الجوهرة القويضي
من ( عطش الروح)