وظيفة لا تشبه الوظائف
أمام طاولة منفردة في الهواء الطلق ركن حمزة النافع مترقبا حلول رفيق الصبا وقيدوم الزملاء.. في ساحة معشوشبة تفصل بين فندق عيون الباهية وناصية الشارع المقابل. وضع الجريدة جنبا وجعل يخلط محتوى الكأس منتشيا مزهوا.. يخفق قلبه من حبور ما جاد الزمان بمثله. ما دار بخلده أن تكون قاعة المؤتمرات قبيل زوال هذا اليوم عتبة الخير ومهوى المن والسلوى. أصابه الذهول حينئذ لما تفاجأ به يجلس بمحاذاته.. التفت متسائلا بين الشك واليقين: عبد الحميد صدوق؟.. رد الآخر وقد جحظت عيناه من فرط العجب: هو ذا بحده وحذافيره.. لم تخذلك الذاكرة يا حمزة.. ما أسعدني بلقياك في غير ميعاد! ونشط العناق فكان مؤثرا يشي بطول أمد الفراق. لم يكن حمزة يتوقع أن ينتهي مشوار زميله إلى ما انتهى إليه الآن؛ مهندس رئيس مصلحة؟! يا لعبث الأقدار! عاش عبد الحميد طفولة معتوهة شوهها اليتم والحرمان.. وجد في بيت آل حمزة موئلا أعاد الدفء إلى بطنه المقرور. وكان ـ لما عرف عنه من بلادة ـ دائم الجلوس إلى جانب حمزة في الفصول الدراسية، يلقى منه الدعم والسند فيما شق أو هان من سبل المعرفة.. وها حضرة عبد الحميد ينبعث من تحت رماده مهندسا رئيس مصلحة!. ها اليتيم المقطوع من شجرة يجلس إلى جانب ولي نعمته في العهد الطفولي البائس، رفيقا كامل العضوية في ذات الحزب.. أبدى عبد الحميد تأثرا لصديقه، ورث لحاله مبديا كامل استعداده لانتشاله من جحيم البطالة.. لا تيأس.. لن أتوانى في ضمان وظيفة توازي مستواك الثقافي المتميز.. أجل، وظيفة لا تشبه الوظائف. واستأنف المؤتمر أشغاله في ذلك الصباح الخريفي الحار.. واحتد الجدال بين المؤتمرين.. وبدا حمزة حينها ضائعا في مئات الوجوه المتفرسة والأعناق المشرئبة.. وبعد استئذان نهض ثورا أسود في قطيع أبيض. وباحترافية ولج بابها مكرها برع حمزة في إثارة النفوس بقذائفه النارية حين تندلق من لسان أحد من شفرة. وانبرى يهذي ملوحا بمنجل، غير حافل بعيون التماسيح تومض من حوله، فضلا عن اسمه المدرج في لائحة الثيران الجامحة المطلوبة للجزر. أفاض في الحديث عن أحوال الطبقة المسحوقة وصرخ ملء عقيرته.. كفانا حرمانا وتهميشا.. الطاقات الشابة فتكت بها ثقافة الإحباط والتيئيس.. الكل على تمام الوعي بلبنات حياتنا المشربة برطوبة الاستهتار تتساقط سدى، وأنوار ربيع شبابنا تأفل رويدا رويدا.. وتمادى في غيه صائحا مستفيدا من النهج الثوري الذي ارتضاه لنفسه عقيدة ومنهجا.. هذا حالنا، وليس أمامنا سوى شبح الخريف يحرق المسافات ويستعجل الأوان.. ولكن ـ أيها الرفاق ـ لن تعز على مطارقنا قلاع الاستكبار أو تستعصي على مناجلنا حشائش الزقوم وأشجار الصبار. أثنى عبد الحميد على رفيقه وأكبر فيه شجاعته وتحديه، ضمه إلى صدره وهمس في أذنه.. أبهرتني حركاتك حتى خيل لي أنني أمام لينين أو تشي غيفارا.. والله إنك أحق بالتشريف والتمجيد أيها الرفيق الصنديد.. جميل آل النافع دين علي ما حييت يا حمزة!!... اطمئن حبيبي.. قريبا ستجازى، ويكون أولى فروض الجزاء، جلسة ثنائية بفندق عيون الباهية. نزل الخبر في نفسه منزلة الماء البارد من ذي الغلة الصادي.. الرفيق حمزة سكير لا يشق له غبار، يزداد عشقا ونهما للشراب متى جادت به جيوب من ترمي بهم الصدف..
ارتسمت على محياه ابتسامة ساخرة.. ارتشف من الفنجان وتلمظ، وفي ذات الآن تلذذ وتفكه وهو يعرض شريط صولته، وإن كان في تمام الوعي بأنه مؤثر الركض في ملعب فسيح، تحرسه النسور وتطوقه الثعابين ويرقد تحت عشبه الأخضر الزاهي فخاخ وألغام، متغافلا في ذات الآن بأن حاله كالسمكة تعرض شطحاتها البهلوانية على مرمى من مقلاة ساخنة.. أضحى الثور الأسود الجامح ذو اللسان الأحمر القارح قاب قوسين أو أدنى من ساطور القصاب. تناول الجريدة وشرع يطرد لهيب الحر معزيا نفسه بلذة الوعد السعيد.. وظيفة لا تشبه الوظائف! سرى حقا دبيب الحبور في ذاته.. رقصت دموع الفرح في بؤبؤي عينيه، ناغى نفسه في صمت.. سكرة الراح في عيون الباهية.. سكرة الوظيفة السامية.. سكرة على سكرة حتى تدركك سكرة الموت الكبرى يا حمزة .. وظيفة لا تشبه الوظائف؟!.. يا ليوم مولدي!
لم يطل الانتظار.. أوقف عبد الحميد سيارته عند ناصية الشارع جنب الطوار.. ترجل صوب صديقه.. عاود عناقه كمن وقع مجددا تحت تأثير حرقة الاشتياق... وضع عبد الحميد ورقة نقدية على الطاولة نظير فنجان القهوة الذي أتى حمزة على آخر نقطة في قعره وتوجها صوب الباب الرئيسي للفندق متعانقين حتى باحة المقصف.
أشار عبد الحميد على جليسه بأن يشرع منذ الغد في إعداد الوثائق اللازمة، وغادر مقصف عيون الباهية بعد أن سدد ثمن ما استهلك من الكؤوس. لم يبق في الفندق، الذي كان قبيل ذلك يعج كخلية نحل، سوى الرفيق حمزة يترنح من فرط السكر.. لم تسعفه ركبتاه على النهوض لولا تدخل النادل الذي أمسك بذراعه وقاده بتؤدة نحو الباب الخارجي...
استفاق حمزة مبكرا، وفتح عينيه ليجد نفسه في زنزانة انفرادية مضاءة.. أدار شريط الأمس وتوصل إلى أنه، كغيره من سكارى الليل، قد يكون وقع في قبضة دوريات الشرطة الروتينية... خاطب نفسه في همس.. لا بأس سوف أتصل حالا بالرفيق عبد الحميد.. هو دون غيره، مهندس ذو نفوذ قادر على أن يستله من هذا القبو كما تستل الشعرة من العجين. بحث عن هاتفه المحمول ولم يجده، ولكنه استيقن من أنه جرد منه قبل الزج به في الزنزانة.. أرهف السمع لصوت تناهى من وراء الباب الحديدي الموصد.. نهض واقترب من كوة هناك فتمكن من الرصد عبرها بدقة.. هاله ما رأت العين وما سمعت الأذن!! عميد الأمن يثني في إطراء على ضابط الأمن الممتاز السيد عبد الحميد صدوق، ويعده بوسام من درجة قناص ماهر.. عاد حمزة إلى مكانه بخفة.. تحسس وجهه وسائر بدنه مرتابا في أمره، مرددا في همس كالمخبول: أحقا أنا حمزة؟! سمع صوت المزلاج الحديدي ينفتح فطأطأ رأسه.. وقف العميد شابكا ذراعيه ينظر إلى الصيد الثمين، فخاطبه هازئا متشفيا:
ـ فكر جيدا أيها الرفيق.. لك خياران ولا ثالث لهما.. السجن دار مثواك الأبدي أو.......!!
فكر حمزة مليا.. ضحك ملء شدقيه مستعيدا وعدا سابقا.. وظيفة لا تشبه الوظائف!!
م. القصصية ـ فرسان الجحيــــــــم ـ
محمد غالمي