اشعر بأن الذي يتحدث في هذا النص ليس أنا بقدر ما يتحدث أبي من أعماقي , لقد هيأ أعماقي قبل أن تتشكل تضاريسها الخارجية فكريا وعقليا وحتى قبل بلوغي لــأدنى المستويات الثقافية , كان يهيئ عالمي بطريقة سهلة أساسها الصراحة وقالبها الوضوح ..
ولابد للأرض من سماد قبل زرعها وغرسها ولابد للبنيان من أسس وقواعد قبل نصب الأعمدة ..وأثث قواعد ثوابتي بحكمته وها هنا الآن يتحدث من خلال قلمي مع الذين لم يدركوه لكنهم حتما أدركوا دوره , دور المدرس ومكانته متى ما يحمل على عاتقه مسؤولية الأجيال ..
لم يكن يصعب عليه حمل قناديل الوعي كي يبدد بها الظلام الحالك الذي كانت ترزح به المجتمعات في محيطه وفي كثير من مواقف التي كان يتبناها استطاع ان يرتقي بهم الى سلالم التنوير منتزعا عن عيونهم الغشاوة من خلال تقريب الرؤية والتعامل مع كل عقليات مختلفة حسب منظورها , لأن النقد الجاف لا يؤدي إلا الى زيادة التعنت وتجبر الجهل بانتشار مساحاته ولكن حسن تصرفه وقوة بصيرته جعلت الآخرين أقرب الى الوصول لمعرفة مواطئ أقدامهم ووعوا بأن المكاسب الآنية لا تؤثث الأمن والسلام وأن الكفاح والنضال في سبيل العلم وفي حرية الأوطان والفكاك من هيمنة الثقافة الخارجية وصد غزوها بالتمسك بعناصر اللغة, لغة القرآن ومشتقاتها المتعددة كلها كانت المبادئ التي ينادي بها ولم يقف عند حد المدرسة لكنه كان نشطا في مناسبات عدة كي يصل الى كل الفئات وأن الوعي بالأمور الغائبة عن الأذهان لن يأتي بصورة مجانية او لمجرد الرغبة وإنما يتحقق بالكفاح والإصرار حتى ولو كلفه ذلك كثيرا من التضحيات بالترفع عن مصالحه زاهدا في راحة باله , لكنه نجح بقدر ما حققه له ذلك من الطمأنينة الى حد ما ومع هذا مازالت هناك في الوطن الحاجة إلى أمثاله ملحة ..
ملحة ولكن القبور تأخذ فلا تعطي نحن في انتظار يدا تشبه يده وقلب بحجم قلبه ولكن الزمن لا يكرر إنتاجه على نفس المنوال وان تكررت القصص وتماثلت الإخفاقات والنجاحات إلا إننا لا يمكن ان نعثر على شخص يشبه الآخر ..
تسقط الجبل التي تحيط بالبحر فتحدث هزة قوية , و تلك الهزة توزع كوارثها الـ متعددة الخارجة عن سيطرة العباد والبلاد ..والأدهى إن بلادنا تتأثر في أحداثها الداخلية المتشعبة وتتأثر أيضا بأحداث خارجية , أهو استعداد مسبق للالتحاق بأي حركة ؟..أم النفوس كورقة ترفعها الزوبعة من الأرض لتسقطها بعد الهدوء دون ان تعيدها في مكانها ..
سأذكر لكم هنا ما حدث معي عندما قابلت قائد الجناح العسكري لجبهة فرود في مدينة أبوخ منذ أربعة سنوات..
قلت له ..بالرغم من إيماني القوي بأهدافكم التي كانت من عمق أحلامنا إلا أنكم كقادة لم تكونوا مؤهلين لتجاوز تلك العقبات و أن مسألة النجاح والفشل أحيانا تخرج من حيز الانتصار الذي يتحقق في ميدان المعركة وهناك معارك أقسى وأقصى على أرض الواقع السياسي بل أكثر صعوبة و أدهى بمكائدها وتشعباتها ,فتحتاج إلى من يترفع عن مكاسب قصيرة الأنفاس ووضع حجر أساس متين للآتي , لهذا لم تثبتوا جدارتكم لهذا الدور في الجانب السياسي بعد انتهاء المعارك وكان عليكم إن تعلموا بأن الذين يجيدون خوض القتال في الجبهات لا يجيدون تحريك الحبال السياسية بمرونة التخطيط العسكري , فالسياسة أمر اكبر من التقنية العسكرية وإتقان لوجسيتيتها التي تعتمد على الجانب العملي أكثر من الجانب النظري...
و الكد من أجمل الحصول على مالا يمكن الحصول عليه إلا بمراوغة المنطق وتكريس قوة الإقناع لما لا يمكن الوصول إليه بسهولة هذي هي الأدوات السياسية , فكيف للذين يتعاملون مع أرقام المساحات طولا وعرضا , وأرقام المجموعات بأعدادها وعدتها , وقياس البعد والقرب عن الهدف يستطيعوا التعامل مع أرقام لا نهاية لها ولا بداية لها والعمل على المساحات خارج المساحة ذاتها ! كيف؟ ..
وكان رده على كلامي خارج إطار الواقع ككل الساسة الذين إذا سألتهم ينحرفون بك إلى طريقٍ لم تكن تهدف الوصول إليها, بينما الجواب الآخر قد يحقق لك بعض القناعات التي تجعلك تحدد موقفك إزائها ويمنح فضولك رضا , كانت تنقصك مجرد إشارة لتصل إليها وهو الأمر ذاته عندما يسألونك هم أنفسهم سؤالا , ليس لكي يصلوا إلى الجواب عينه , وإنما ليصلوا إلى جواب آخر يندرج ضمن الصدفة المجانية رغبة منهم في مراوغة ذكائك بينما الأمر ذاته يراوغ ذكائهم , لا يوجد ميزان بكفة كما يظنون كل الموازين لها كفتيها , لذلك توصلت من إجابته على سؤالي إلى إجابة لم أكن سأعثر عليها بسهولة لو كنت سألته مباشرة كانوا يقولون العفر ,, قوب , كي , محرو ..(القوس والرمح) ..
لأن هناك سؤال أقرب الى القوس والرمح ويكون الجواب هو نتيجة انطلاق الرمح وان كان السؤال اقرب الى القوس , يطلق السؤال شخص جميل القوام ( *ماسياَّ معو ) ولكن الجواب المحتال سيأتي أحدبا وكل الإجابات المنحرفة تأتي محدودبة لذلك كانوا يقولون قدماء العفر في كل موقف غير محسوم كأنه مثل " القوس والرمح" دليلا على أن الطاقة كامنة والأمر بات معلقا ..مازالت هناك في الوطن رقصات رائعة *هورَّا و *جُدَا و *ورر هي رقصات رجالية ينزل فيها كل اثنين ليتبارزا في كلا من هورّا و جُدَا والرقصة تشبه كرقصات النسور في مواجهة البعض لبضعهما بتبادل الأماكن أما ورر عبارة عن رقصة يصطف فيها الفريقين الى صفين متقابلين كلما يبدأ بالغناء الصف الأول يرد عليه الصف الثاني بما يقابل ما جاء به الأول ثم يتحركوا تجاه بعضهم بالتتابع ..تذكر يا أبي في إحدى المرات عندما كنت صغيرة طلبتُ منك ان ترتب لاقامة احتفال في منزلنا , كي يرقصوا الرجال تلك الرقصات , نفذت طلبي وخاصة كي لا أبكي إذا غبت قليلا عن المنزل في أداء أنشطتك الاجتماعية التي كنت تساند فيها الكثير من الناس في مواقف عدة وكانت تلك فرصتك كي أتلهي بذلك العرض الفني الرائع حتى لم ابحث عنك الى ان انتهى الحفل وكنت أنت عدت الى البيت ..ذلك عندما كنا في منطقة زراعية وكل شيء هناك على طبيعته ..كالشمس كانت تتسلل الى ألاجفان مصبوغة بكلورفيل الأوراق الخضراء والنسمات تراقص سنابل الحنطة ..والفلاح من طبعه يطلق إما صفيرا أو يسلي نفسه بأنين الناي وكل هذه الاشياء لها لذة خاصة , تجعلك تبدو سعيدا دون ان تدري سببا للسعادة ..
وفي تلك الليلة حيث بدأت الحفلة بالغناء والرقص في منزلنا في تمام الساعة التاسعة ليلا ولم يكن هناك جمهور أمام هذا الحشد من العازفين والراقصين سوى طفلة مدللة مزعجة صاحبة المزاج الغريب وبقية أفراد العائلة من النساء اللائي كن يشاهدن العرض من خلف النوافذ دون ان يظهرن ,,لكني أنا كنت أتابع المشاهدة وكنت انقل نظراتي بين الصفوف وفي يدي حلوى وتلك الدمية الغاضبة لأني بالفعل أهملتها وكنت اعلم في يقيني بأنها صورة ناقصة , حتى في حضور صديقاتي كنت استغني عنها .. وفي الساعة العاشرة والنصف عاد أبي الى المنزل وبرفقته أصدقائه الذين كانت تحلو لهم تسميتي بالنحلة وكانوا ينزعجون مني كثيرا كما كنت أبادلهم الشعور ذاته , فقط لأني في نظرهم مزعجة وخاصة كنت أحول جلساتهم الثقافية الى فوضى عندما ألح على أبي بطلبات معينة واقطع عليهم حديثهم الذي لا أفهم منه شيئا , وفي غالب الأوقات كنت أحاول مشاركتهم في نقاشاتهم لمجرد إثبات الذات وفيما بعد عرفت بأني كنت فعلا مزعجة وأن أبي كان يتحمل كل هذا لأنه يحبني يااااااه , وفي اليوم الثاني بدأت الناس تتساءل ما المناسبة لإقامة الحفل في بيتنا وعندما عرفوا القصة راقت لبعضهم عكس البعض الذي انتقد الأمر حتى قالوا لقد أفرط استأذنا في دلال ابنته ..
هم أنفسهم الذين يقولون كلما وجدوني بأنه أحسن تربيتي وتربية أبنائهم في التعليم والتوجيه لاحقا ..
أعود لتلك الرقصات الرائعة وهي كالسجال في القتال رغم إنها تقام في الأعراس والأعياد وفي الأنشطة الثقافية ومهرجانات فلكلورية حيث يحكى في التاريخ بأنها اُخترعت في عهود الغزو ومن خلالها حافظوا علي الوطن ..ولكنها الآن لا تمثل هذه الرقصات سوى الأمن والسلام والتشبث بالحياة وفيها الأمل متقد يرسم الابتسامة على الوجوه , كما تحمل الكثير من مبادئ الفروسية وفي سياقاتها تأمل الحكماء وبلاغة الفصحاء وفي كثير من الأناشيد التي يلقونها اثناء هذه الرقصات بها الكثير من العبر ووعاظ وإيقاظ الحماسة في النفوس واستنهاض القلوب وفيها تاريخ محكي وسرد لسير العظماء وتناقل علم الأنساب من أدواتها السيف وغمده المزخرف والخنجر وغمده المزين بنقوش الفضة وفصوص الزمرد والعقيق , والسهام وأقواس من الجلد الأملس بعضها مصنوع من هيكل السلحفاة وجلد مدبوغ محفور بالنقوش المذهلة ..من العجيب والغريب بأن العادات مازالت كما كانت ولكن الوطن تغيرت ملامحه ..
كنت أتساءل لماذا تؤكل المساحات من الكتف وتنضم الى خارج الحدود كما تأكل الزلازل المرتفعات وتساويها بالسهول أهي فروض جغرافية أم إنها وهن يصيب التربة بعد أن تعبث بها أياد الطمع لــكأن بعض المناطق تقزمت وبعضها تعملق . ...
الوصف : ماسيَّا معو
ماسيَّا / قوام
معو / جميل
الأدوات :قوب كي محرو ..
قوب / القوس
كي / واو العطف
محرو / الرمح
الرقصات:
هورَّ ا , جُدَا , ورر
كلمة ورر فضلا عن انها رقصة تعني الغزو أو صد الهجوم