لَحْمُ الضّأنِ يُرْمَى لِلْكِلاَبِ
بقلم / ربيع السملالي
لاَ يَكْرَهُ شَيْئًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ كَمَا يَكْرَهُ الضَّجِيجَ وَالضَّوضَاءَ واللّجَبَ .. يَضِيقُ صَدْراًً وَيَتَمَزَّقُ أَلَماً ويَتَمَيَّزُ غَيْظاً عِنْدَمَا لاَ يَسْتَطِيعُ التّرْكِيزَ مَعَ الْكِتَابِ الّذِي يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَصْوَاتُ بَنِي الْبَشَرِ تُحَاصِرُ خَوَاطِرَهُ ، وَتَحْتَلُّ فِكْرَهُ ، وَتُضَايِقُ عَقْلَهُ وَقَلْبَهُ .. لِسَانُ حَالِهِ :
عَوَى الذّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى...وَصَوَّتَ إِنْسَانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ
حَاوَلَ مِرَارًا الْاسْتِقْلَالَ بِبَيْتٍ لِوَحْدِهِ حَيْثُ الْهُدُوءُ وَالسَّكِينَةُ وَالْاطْمِئْنَانُ ، وَلَكِنَّ مُحَاوَلَتَهُ تَبُوءُ بِالْفَشَلِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ الْبَغِيضِ الَّذِي يَقْبَعُ تَحْتَ رَحْمَتِهِ الْمُزْرِيَةِ ، صَارَ لِزَاماً عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ الْمُضْنِيِّ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ...
مَا كَانَ يُؤْثِرُ أَنْ يَمْتَدَّ بِهِ زَمَنُهُ حَتَّى يَعِيشَ كَمَا تَعِيشُ الْفِئْرَانُ وَيَحْيَا كَمَا تَحْيَا الْقِطَطُ . يَنْتَابُهُ شُعُورٌ بِالْغُمُوضِ وَهُوَ يَرَى هَذِهِ الحْيَاةَ التَّافِهَةَ تَسْتَنْزِفُ مِنَ الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ كُلَّ طَاقَتِهِم ، فِي حِينٍ لاَ تُعْطِيهِمْ إِلاَّ النَّزْرَ الْقَلِيلَ مِنْ ثِمَارِهَا الْيَانِعَةِ ..
تَتَمَلَّكُهُ الْحَيْرَةُ وَالدَّهْشَةُ وَهُوَ يَرَى هَذِهِ التَّنَاقُضَاتِ السَّافِرَةَ فِي بِلاَدِهِ الْبَائِسَةِ الَّتِي تَدّّعِي الْإِسْلاَمَ... وَهَذِهِ الْهَوَاجِسُ وَالْخَوَاطِرُ تَطْفُو عَلَى سَطْحِ أَفْكَارِهِ كَمَا يَلِي :
هَذَا الأَنْوَكُ الْجَاهِلُ مُرَتَّبُهُ الشَّهْرِيُّ بِالأُلُوفِ بَلْ بِالْمَلاَيِينِ ، وَهَذَا الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ لاَ يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ ،
وَهَذَا الْمُجْرِمُ الْغَبِيُّ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا تَضِيقُ بِهِ خَزَائِنُهُ ، وَهَذَا الشَّيْخُ التَّقِيُّ لاَ يَجِدُ ثَمَنَ كُتُبٍ هُوَ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا ، وَهَذَا الظَّالِمُ الْمُسْتَبِدُّ يُنْففِقُ أَمْوَالَهُ بِسَخَاءٍ وَبِدُونِ حِسَابٍ عَلَى بَنَاتِ الْهَوَى والْهَوَانِ ...
وَهَذَا طَالِبٌ مُجْتَهِدٌّ يَحِنُّ إِلَى زَوْجَةٍ يَتَبَلَّغُ بِهَا فِي ظِلِّ هَذِهِ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ ، وَهَذَا مُوَظَّفٌ ثَرِيٌّ ضَاعَفُوا لَهُ أُجْرَتََهُ ، وَهَذَا شَابٌّ عَاطِلٌ أَرْهَقَتْهُ الزِّيَادَةُ الْمُضْنِيَّةُ فِي الْمَاءِ وَالْكَهْرَبَاءِ وَالْكِرَاءِ ..
وَهَذَا يَسْكُنُ مَعَ زَوْجَهِ وَابْنِهِ الْوَحِيدِ فِي مَنْزِلٍ وَاسِعٍ جِدًّا جُلُّ بُيُوتَاتِهِ لاَ حَاجَةَ لَهُ فِيهَا ، وَهَذَا إِمَامُ مَسْجِدٍ يَقْبَعُ مَعَ زَوْجِهِ وَأَبْنَائِهِ الْخَمْسَةِ فِي كُوخٍ يَتَكَوَّنُ مِنْ غُرْفَةٍ وَمْطْبَخٍ وَمِرْحَاضٍ ، تُضَاجِعُهُ الْهُمُومُ والْأحْزَانُ صَبَاحَ مَسَاءَ..
وَهَذَا جُوَيْهِلٌ لَهُ مَكْتَبَةٌ فَاخِرَةٌ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ يُزَيِّنُ بِهَا قَصْرَهُ الْمُنِيفَ ، وَهَذَا أَدِيبٌ خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ لأَنَهُ لاَ يَمْتَلِكُ كِتَابَ الأَغَانِي لِلْأَصْفَهَانِي ..
وَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ يُكْثِرُ الْحّزَّ وَيُخْطِئُ الْمِفْصَلَ تَشْرَئِبُّ لِقُدُومِهِ الأَعْنَاقُ ، وَتَضْطَرِبُ لِرُؤْيَتِهِ الأَفْئِدَةُ لِأَنَّهُ ذُو مَالٍ ... وَهَذَا سُنِّيٌّ حَافِظٌ لِحُدُودِ اللهِ وَلِكَلاَمِهِ لاَ قِيمَةَ لَهُ وَلاَ عُنْوَانَ يَرْزَحُ تَحْتَ حَرِّ الشَّمْسِ فِي سُوقِ الْخُضَرِ الرَّدِيئَةِ مِنْ أَجْلِ لُقْمَةِ الْعَيْشِ :
فَكَمْ دَقّتْ وَرَقّتْ وَاسْتَرَقَّتْ ...فُضُولُ الرِّزْقِ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ
وَهَذِهِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ سَاقِطَةٌ لَعُوب بِقُلُوبِ أَشْبَاهِ الرِّجَالِ ، لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ ، لَهَا مِنَ الأَمْوَالِ مَا لاَ يَخْطُرُعَلَى بَالٍ .. وَهَذِهِ امْرَأَةٌ عَفِيفَةٌ طَاهِرَةٌ قَدْ أَنْشَبَ الْبُؤْسُ أَظْفَارَهُ فِي حَيَاتِهَا بِلاَ رَحْمَةٍ وَلاَ إِشْفَاقٍ وَلاَ هَوَادةٍ ، شَوّهَ الْفَقْرُ مَلاَمِحَهَا كَما شَوَّهَ مُذَكِّرَةَ أيّامِهَا الغَابِرَةِ ..تَعِيشُ فِي لَيْلِ أَسَاهَا الطَّوِيلِ ،
وَتُعَشِّشُ الرَّتَابَةُ وَ الإِهْمَالُ فِي أَزِقَّةِ شُهُورِهَا وَأَعْوَامِهَا الطَّوِيلَةِ..
وَهَذَا عَجُوزٌ لَئِيمٌ طَاعِنٌ فِي السِّنِّ يَحِنُّ إِلَى رَبِيعِ أَيَّامِهِ الْغَابِرَةِ الّتِي قَضَاهَا فِي أَلْوَانٍ وَأَنْوَاعٍ وَضُرُوبٍ مِنَ الْمَسَرَّاتِ عَلَى حِسَابِ أَبْنَاءِ شَعْبٍ هَزِيلٍ ضَئَيلٍ لاَ حَوْلَ لَهُ وَلاَ قُوّةَ .. وَهَذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَقُورٌ وَالْحَسْرَةُ مِلْءُ حَنَايَاه يَتَمَنَّى لَوْ يُبَاغِتُهُ الأَجَلُ لِيَطْوِيَ سِجِلَّّ حَيَاتِهِ الْحَافِلَةِ بِالنَّكَبَاتِ وَالْمَصَائِبِ وَالأَزَمَاتِ
وَهَذَا وَهَذَا وَهَذَا وَهَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ ...
فَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لَسْتُ أَذْكُرُهُ ...فَظُنَّ شَرًّا وَلاَ تَسْأَلْ عَنِ الْخَبَرِ
وصدقَ الشَّافِعيُّ حينَ قالَ :
تَمُوتُ الأسْدُ فِي الْغَابَاتِ جُوعاً ... ولَحْمُ الضّأنِ يُرْمَى لِلْكِلاَبِ
.................................................. ........
هذه طبعة ثانية لمقالةٍ كنتُ نشرتُها في رمضان الماضي ، قد هذّبتها وصحّحتها وزدتُ عليها وعَنَّ لي نشرها اليوم ... 04 / 03 / 2012