رقصة الموت
" أي قدر هذا الذي أوجدنا بهذا العالم المملوء بالتناقضات , و أي حماقة رمت بنا إلى المجهول .
.... المجهول , الضياع , الذات ... هذه الثلاثية التي تستقطب وجودنا , تستحضر أنفاسنا , و تستقطر إحساسنا , تجعلنا ننضد قصيدة , نتوهم أسطورة , نجعل من العدم معركة مصير .. ننأى بذواتنا فوق معطيات الواقع , نؤثر و نتأثر , نحترق كالشمع كي ننير دربا للآخرين . "
كان هذا آخر ما عثرت عليه من كتابات أحمد و أنا أفتش في أوراقه المبعثرة هنا و هناك بغرفته العلوية بذاك الفندق الحقير - فندق روز – الذي لا يقصده سوى الباحثين عن الرذيلة و اللذات الخبيثة .
هذا الفندق الذي شاع صيته و أصبح مضرب الأمثال هو و صاحبته ذات الأصل التركي مدام روز , و الذي ينشط للأسف بترخيص من طرف الجهات الإدارية للمدينة السابحة في الضباب .
كل المدينة استفاقت يومها على الخبر المشئوم , الذي تناقلته الألسنة تباعا على مختلف لهجاتها المتنوعة ... لقد وجدوا أحمد العربي الشاعر مشنوقا بإحدى غرف نزل مدام روز , و قد صرح محافظ الشرطة لبعض الصحفيين بأن كل الدلائل و القرائن تدل على أنه انتحر .
أحمد الشاعر هو صديق لي من أيام الدراسة , كان دائما يحلم بالعيش بباريس أو لندن , كان مولعا بالشعر و الأدب . و كنت عندما لا أجده بساحة الجامعة , أبحث عنه بالمكتبة العامة فقد كان شديد المطالعة و القراءة و لطالما كنت أجلس إليه يحدثني عن قصيدة النثر و عن الحداثة فقد كان مولعا بكل ما هو جديد , كنت دائما أنصت إليه و عيوني تفضح إعجابي بشخصيته و ثقافته و كذا طريقته الفريدة في الكلام , فقد كان يملك قدرة كبيرة في جلب انتباه و اهتمام أي كان , كانت ملامحه توحي بشيء غريب
و تجذبك في انسياب و سلاسة رهيبة . كنت أعتبره أفضل صديق منحته لي الحياة , و كان يبادلني نفس الشعور , و لطالما كان يأتمنني على أسراره و يسرد لي حتى تفاصيل أسرار حياته الخاصة , و مشاكله مع أسرته و خاصة أعمامه حول الميراث . فقد كان من عائلة ثرية و تملك أراضي واسعة و عقارات متعددة .
كان متذمرا من هذا التناحر بينه و بين أعمامه حول التركة , فمنذ وفاة والده و جده بحادث السيارة الملعون , وجد نفسه ملزما بالتصدي لأطماع أعمامه الأربعة الذين ما انفكوا محاولين هضم حقوق عائلته الصغيرة .
كان أحمد يعيش مع والدته و أخته الوحيدة "كامليا", و التي كان يناديها دوما ب " كامي " فقد كنت أشهد روعة علاقتهما أثناء زياراتي المتعددة له بالفيلا التي يقطنها برفقتهما , و قد كانت " كامي " مدللة جدا و كان أحمد لا يرفض لها طلبا , كان يحس بمسؤوليته اتجاهها وحاول قدر الإمكان أن يعوضها عن فقدانها لحنان الأب و خصوصا و أنها لم تتجاوز الثالثة عشر بعد .
أما والدته فقد كانت في منتهى الطيبة , و كانت دوما تصر عليً أن أتناول معهم وجبة العشاء كلما حللت ضيفا عليهم , و كانت دوما تشكو لي أحمد لأنه لا يتابع دروسه بالشكل المطلوب و أن الشعر قد لحس مخه .
و أنها قد ملت من أشرطة الشعر التي يستمع لها كل ليلة , و من كومة الأوراق التي تجدها مبعثرة كل صباح بغرفته و لفائف التبغ المحترقة .
كنت دوما أبتسم في وجهها , و أخبرها بأن أحمد أصبح رجلا و يمكن الاعتماد عليه , و أنًه بلا شك يعرف كيف يوفق بين دراسته و جنونه .
لم أتصور يوما أن نهايته ستكون بشعة و بحبل معلق بسقف إحدى الغرف الحقيرة بفندق من فنادق الدرجة الثالثة بلندن .
كانت السيدة " روز " واقفة عند عتبة باب الغرفة ترمقني بعينيها, و أنا أفتش هنا و هناك علني أعثر على دليل ما, يقودني إلى معرفة السبب الحقيقي وراء انتحار صديقي , كان هناك إحساس قوي بداخلي يخبرني بأن انتحار أحمد وراءه سر كبير , فأنا أعرفه جيدا – ايمانه بالله قوي _ و لا يمكن أن يُقْدِمَ على جريمة كهذه و هو بكامل قواه العقلية , لا بد أن هناك شيء خارج عن إرادته دفعه إلى هذا الفعل الشنيع , و ربما لم ينتحر , لعلها جريمة قتل نُسِجَت خُيوطها بدقة لِتوحي بأنه أقدم على الانتحار , كانت هذه التساؤلات لا تفارق خَلَدِي و أنا أجتهد في البحث بين أشياءه و مستلزماته عن أي خيط يُؤكّد لي شكوكي التي بدأت تنمو بداخلي بسرعة رهيبة .
خطوات نظرات السيدة " روز " تتبعني أينما وضعت يداي , أحس بنظراتها تترقب كل حركة أقوم بها , حاولت أن أتجاهل تلك النظرات و لكنني لم أستطع , طلبتُ من رجل عون الشرطة الذي رافقني أن يغلق باب الغرفة , اعتذر من السيدة بلطف و أغلق الباب , ثم بادرني بالسؤال : هل هناك ما يزعجك سيدي ؟؟ أجبت بالنفي و اصطنعت بسمة خفيفة , مع أنني كنت أشعر باختناق كبير فلم أحب ذاك المكان مطلقا , كان جوه كئيبا يوحي بالوحشة و الغرابة , و كنت أشعر بنوع من الكره تجاه هذا المكان و أصحابه , لعل هذا الكره ما جعلني لا أحتمل نظرات تلك " الروز" و هي تحدق بي و ترقب حركاتي .
فتحت الخزانة و رحت أُقلّب جيوب ملابس صديقي , هذه قطعة نقدية و هذه علبة سجائر أمريكية ... لم يدخن منها الكثير فقط سيجارتين ...
أخيرا عثرتُ على شيء له معنى .. إنها صورة فوتوغرافية لفتاة جميلة , يبدو من ملامحها أنها ليست عربية , و قد كُتِبَ على ظهر الصورة كلمة " أحبك أحمد " بالإنكليزية .
وضعت الصورة مع باقي الأشياء بوسط كيس ورقي , و طلبت من عون الشرطة أن نغادر المكان , أغلق الباب بالمفتاح الذي كانت تحتفظ به الشرطة
من يوم الحادث و هممنا بالانصراف , و إذ بصاحبة الصورة تظهر أمامي فجأة بنهاية الرواق و هي ترتدي سترة سوداء , بدت لي شاحبة الوجه , مرتجفة من الوهن , تقدمت نحوها بخطى وئيدة و ألقيت عليها التحية , فأومَأت برأسها و ردت التحية بصوتٍ خافت كِدتُ لا أسمعه , و لكن هدوء المكان جعله يصل إلى مسمعي بنقاء , تأملتها جيدا... تبدو عليها علامات التعب و الإرهاق الشديد , و كأنها لم تنم من فترة طويلة , بادرتها بالسؤال : أنا كريم صديق أحمد فمن تكونين ؟؟ و هَمَمْتُ بإخراج صورتها من الكيس و لكنّ صوتها عاد ليخفق بأذني من جديد ... أهلا كريم أنا " كاترين " عشيقة أحمد لقد حدثني عنك كثيرا ... أحْسَسْتُ من صوتها أنها ستنهار قريبا , لم تعد لها القدرة حتى على الكلام , تقدمتُ منها أكثر و طلبت منها أن ننزلَ لبهو الفندق و نتحدث هناك , و لكنها تهاوت بين ذراعي , لقد خارت كل قواها و قدماها لن يحملاها أكثر من هذا , هَرَعَ عون الشرطة الذي كان يقف بعيدا منّا بعض الشيء لمساعدتي في حملها , لم يكن وزنها ثقيلا , بل كانت رشيقة , ممشوقة القامة , و رغم الْنَصَب الشديد إلاّ أنّ وجهها بقى محتفظا بملامحه الجميلة .
لم ننتظر كثيرا حتى وصلت سيارة الإسعاف , و لحسْنِ حظي أن عون الشرطة كان برفقتي و شهد ما حدث , فقد تولّى مهمة شرح ما حدث للآخرين و للممرضة التي قامت بالإسعاف السريع " لكاترين " , تَمَّ حمَلُها و وَضْعِها بالسيارة و طلب مني عون الشرطة أن أرافقها للمستشفى , فقد كان مرتبطا بمهام أخرى .
طلبت من السيدة " روز " أن تعيد لي التصريح الذي حصلت عليه من محافظة شرطة المنطقة بعد عناء طويل , و رافقتُ " كاترين " إلى المستشفى .
جلستُ بجانبها أرقُبُها عن كَثب , أتأمل ملامحها الطفولية و أتساءل في قرارة نفسي , ترى من تكون ؟؟ و ما وظيفتها بالحياة , و ما سر علاقتها بأحمد , هل حقا كانت عشيقته أم هناك شيء آخر يجمع بينهما ؟؟ هل حقا أَحبّت أحمد ؟؟ و لما أحمد لم يخبرني عنها في رسائله ؟؟ و لم يكن يخفي عنيّ شيئا
أبدا يتعلق بحياته الخاصة , لما أخفى عني هذه العلاقة بالذات ؟؟؟
سيل جارف من الأسئلة التي لا أجد لها جوابا مقنعا تعصف بعقلي الذي لم يعد يحتمل كل هذا الغموض , فجأة لمحت حركةً بجفنيها , يبدو أنها ستستفيق
من غيبوبتها , مددت يدي نحو أصابعها التي بدأت تتحرك في بطء شديد و ضغطت عليها برفق .. ها هي تفتح عينيها و تعيد إغلاقهما مجددا , و بعد برهة فتحت عيونها و نظرت إليّ ثم جالت بهما محاولة أن تكتشف المكان .
عرفتُ أنها تود معرفة ما حدث لها و أين هي الآن , ابتسمتُ في وجهها و قلت لها في رفق : لا تكترثي , فقد أُغميّ عليك فجأة , يبدو أنكِ أجهدت نفسك كثيرا خلال الأيام الماضية , ستكونين بخير إن شاء الله , لم تنبس ببنت شفة , و عادت لتغرق في نومها من جديد .
يتبع ....
بقلم هشام