سألتُ أحدهم ذاتَ يوم : خَلْفَ ماذا تجري في هذه الحياة ؟
أجابني , بنبرةِ مَنْ عَرَفَ أكثرَ مما كانَ ينبغي له أنْ يعرف : خَلْفَ راحةِ البالْ .
ضحكتُ يومها مِنْ إجابةٍ , حسبتُها كانتْ على قَدَرٍ مِنَ السخافة , لمْ أملكْ أمامها , سوى ابتسامة تهكمْ . وما كنتُ أدري وقتها , أننّي بابتسامتي تِـلـكْ , ما كنتُ أتهكمُ على أحدٍ سواي.
لذا ; في لحظةٍ ما .. وبقَصْدِ الوصولِ إلى "ضالتي" , اعتزلتُ الطعامَ والكلامَ والآثامْ .. تماماً , كما اعتزلتْ ماجدة الرومي " الغرام " في أغنيتها الشهيرة تِلكْ .. وما استرحتْ.
لا زالتْ تنقصني راحةُ القلب المهمومِ دوماً بقضايا عربية " تَسمُّ البدن " .
أنا الذي ما استطعتُ يوماً شيئاً ضدَّ جيناتي , عِشتُ وفيّاً دوماً لقناعاتي , ولقيمٍ أرادها لي أبي , مذ أورثني أحلامه القومية .
ليلة الأمس , كنتُ قد قررتُ الخروج مِنْ تلك العزلة التي فرضتها على نفسي مُنْذُ زمنْ .. تجنباً لما كنتُ أحْسِبُه " مدعاة للألم ".
ولأنَّ بي حماقةٌ ما استطعتُ معها شيئاً مُنْذُ الأزلْ , كنتُ قد جلستُ , فَـوْرَ خروجي مِنْ عزلتي تِلكْ , إلى احدى شاشات الاخبار العربية .
ندمتْ .. يا الهي كم نَدِمْتُ على فِعلتي تلكْ .
هو سؤالٌ واحد فقط , صفعني فيه التأملْ :
كمْ مِنَ الأهوالِ على هذا الشعب أنْ يعيش , قبلَ أنْ يجتازَ بحارَ الخيبة , ويصلُ إلى شواطئ الديمقراطية المعطوبة , التي ما زال يسبح في دمه مجدفاً للوصول إليها ؟!!..
كلمتين اثنتين , هما من دعتا التأمل , ليلطمني بذلك السؤال.
كلمتين اثنتين ما كانتا سوى : " التغريبة السورية ".
يا ألطافَ السماء .. هل باتَ للسوريّ أيضاً " تغريبةً " يشيبُ لها الوِلْدَانُ هولا .
السوري .. هذا المشردُ داخلَ الوطنِ وخارجه .. وعلى البواباتِ الحدودية , يستجدي صدقةً مِنْ بلادٍ كانتْ ذاتَ عهدْ , تستجيرُ به ملاذاً مِنْ هولِ ما يُعانون .. فيفتح وَتينَ القلب لهم ورموش العين , قبلَ أنْ يشرعَ إلى فتح أبواب البيت .
اليوم ; قَلَبَ الزمن عَهْدَ الحياة .. أصبحَ السوريُّ هو مَنْ يَطلبُ الملاذْ , وأصبحتْ تِلكَ البلاد , هي مَنْ بيدها مَفاتيحُ الإنسانية .
ولأنهم كعهدهم .. عنه لا يختلفون , وضعوا السوريَّ في مخيماتٍ , ليسَ بها سوى الذلّ الذي ليسَ كمثله ذل .. والهوان الذي ما كانَ لخيوطِ العنكبوت من قبل.
الخروج مِنْ تلكَ المخيمات .. لا يكون إلا بإذن مسبق .
والإختلاط بأشقائه مِنْ أهلِ البلد " الذي تكرّم عليه بما تكرّمْ " ..مكروهٌ محضورٌ ممنوعْ.
الدفء .. ترفٌ لا يليق بلاجئ.
والموتُ برداً , هو زُهْدٌ به يكون صكُّ الدخول إلى الجنة.
إنَّه كرمٌ مِنَ الضيافة العربية المستحدثة , التي لمْ يَسمعْ بها " شاعركم " مِنْ قبلْ . ذلكَ أنه لو سَمِعَ بها فعلاً , لما تساءلْ :
أنا يا صديقة متعبٌ بعروبتي ** فهل العروبة لعنةٌ وعقابُ ؟
هوذا يا نزارْ .. هوذا .
العروبةُ بلاءٌ وداءْ , فتنٌ ومِحَنْ , خَونةٌ وأعداءْ .. وفُرقاءُ يُساومونَ على دمِ الفقراءِ الذي سيسيلْ .. وأوصياءٌ مُكلَّفونَ بتخصيبِ الموت , بذريعة الدفاع عن الحياة.
اندثرتْ تلكَ المفاهيم الساذجة , عَنْ صِلةِ الدم والقربى .. واقتُلعتْ أشجارُ العائلةِ لتنمو مكانها نباتات وحشية ، جرى تلقيحها في مختبرات " ناسا ". ولمْ يعد يجلس عند رأس الميّتِ أحدْ , سوى غربان يحلو لها ذلك , رغم مرارة المشهد .
اليوم ، وليس يومئذ ، صارَ المرءُ يهربُ مِنْ أخيه ، ومِنْ بنيه ، ومِنْ جامعةِ الدول العربية التي تأويه . صارَ الوطنُ كقطعةِ حشيشٍ يُخفيها الناس في أدراج خزائنهم , تحتَ كومةٍ ثقيلةٍ مِنَ التهرب والتنصل واللاهتمام.
لــعَمْري , إنَّه عُمْرٌ رديء ؛ قضينا أغلبه في محاولة إثباتِ براءتنا مِنْ .. وتراجعنا عَنْ .. وخيبتنا في .. وشكوكنا حول ... وأخلينا الذهن تماماً مِنْ كل شيء , عدا تلك المفردات التي رحنا نشتمُ بها أوطاننا , ونهتف فيها لغزاةِ عروبتنا , بأنْ هلُّموا إلينا , لِـتُـطـيـحـوا ببقية ما تبّقى لدينا مِنْ كرامة الأنبياء .
فلا تغضبْ أيها السوري .. لا تغضبْ ولا تعتبْ على عروبةٍ خَذَلتْكَ شِعاراتُها . ذلكَ أنَّ القومية التي باهيتَ بها الدنيا يوماً , أضحتْ اليومَ مِنْ خردوات الماضي ، ومُريدوها تحولوا إلى كائناتٍ عجيبةٍ يُفضلُّ تحاشيها.. حالها , تماماً كحالِ الوطنية , هيَ سمعةٌ سيئةٌ لصاحبها.
فلا تغالي كثيراً أيها السوري في غضبكْ .. وإنْ كانْ لكَ مِنْ ذلكَ بُدٌّ , فحريٌّ بكَ أنْ تُلقي بسخطك , كلُّ سخطكَ , على أولائي المتشدقين بثورتكم .. أولئك الذينَ سَمّوا أنفسهم " وطنيون .. وثوارٌ وأحرار " , وهم خارج الوطن , وبعيداً عن ميادين الثورة والحرية .
أولئكَ الذين يخرجون علينا كل يوم , بجعجعاتهم التي لا تقي من برد , ولا تروي من عطش , ولا تُسمن من جوع .. ولا تردّ الذل عن الجموع . ذلك أنّ أقصى ما استطاعتْ أنْ تفعله تلكَ الجعجعات , هو أنْ زادتْ مِنْ رُعْبِ السوري رُعباً أكبرْ .. ومِنْ خوفه خوفاً أكثرْ .. ومِنْ توتره توتراً أخطرْ .
وبامكانهم اليوم , كما كل يوم , أنْ يضيفوا إلى سجل انجازاتهم انجازاً أخرْ , بعدما استطاعوا أنْ يجعلوا مِنْ تلكَ " التغريبة " التي يعيشها السوري , الحدثَ الأبرزَ والأسخنَ في العالم .. وبذا تتحقق نبوءة ذلك المتفاخر , الذي قال يوماً : " أنا سوري آه يا نيالي " .
لا تتأوه كثيراً يا فتى , خذلتك سوريتك , وخذلكَ تاريخُكْ .. تاريخُكَ الذي تقولُ عنه حقائق الزمن , أنه يعود إلى ثمانية الآلآف عام.
واعلمْ .. أنْ ليسَ هناكَ فخرٌ يعلو على فخر الضمير . وضميرنا الإنساني ماتْ , مُذْ سمحنا لأنفسنا , نحن أبناء عمومتكَ , أنْ نضعَ أبناء جِلْدتكَ , في مخيمات الذل والبؤس .
ولا تحزنْ .. لا تحزنْ يا ابن عمي , اجلالاً لكَ فقطْ , سنقيمُ ذاتَ يوم ,عزاءاً كبيراً للضمير العربي . عزاءٌ يليقُ بمقامه الذي يستحق.
حزيناً أقولها ..