اللِّقاءُ الأَخيرُ
وَقَفَ بَعيدًا عَن المَسجدِ يَنتظرُ خُروجَها بَعدَ صلاةِ الظُهرِ مُتَفِيئًا بِمِظَلّةِ مَتْجَرٍ على الرَّصيفِ المُقابِل .
منذُ أَبْلغَهُ وَائِلٌ الخبرَ وهُوَ يَشْعُرُ بِهُوَّةٍ سَحيقَةٍ تَزدادُ عُمْقًا في دَاخلهِ تَجذِبُه بِقُوةٍ وتَعزِلُه عن العالَمِ شَيئًا فشَيئا ، حتى قُبيلَ خُروجِها ضاقَتْ رُؤياهُ وتَسَمَّرَت عَيناه على بابِ المسجدِ حيثُ بَدأَ المُصَلُّونَ يَتراكَضونَ إلى الخَارجِ استِعدادًا لاستِقبالِها .
هاهِيَ تَلُوحُ وَسْطَ الزِّحامِ يَتناوبُ حَمْلَها كَثيرونَ لَمَحَ بَينَهُم وائلا .
سَقَطَ شَيءٌ في داخِلِهِ جَعَلَهُ يَشْعُرُ بِرَهْبَةٍ وكَأَنَّ حُكْمَ قاضٍ يُوشِكُ أَنْ يُوقَعَ عَلَيْه .
حُبُّها القَديمُ تَحَوَّلَ تَحْتَ ضغطِ السِّنينَ وكَثْرَةِ الأسفارِ إلى ذِكرَى شِبْهِ مُتَحَجِّرةٍ تَقْبَعُ عَميقًا في أَحَدِ رُفوفِ الذَّاكِرَةِ يَعْلُوها غُبارُ الأحْداثِ والأيَّامِ والأَشْخاصِ . وَحدَهُ تَأنيبُ الضَّميرِ كانَ يَخِزُ قَلْبَهُ التَّائِهَ كُلَّ حِينٍ لُيُذِيقَهُ من أَلَمِهِ .
- كانَ لا بُدَّ أن أَحْضُرَ اليَوْمَ لأجْلِ وائِل ، وُجُودِي بالقُربِ مِنْهُ سيَرْفَعُ مِنْ مَعْنَوِيّاتِهِ أمامَ إخْوَتِهِ وأخْوالِهِ ، الحَمْدُ للهِ هُوَ الآنَ رَجُل رَاشِدٌ ناجِحٌ خَلوقٌ مَحْبوبٌ مِن الجَميعِ .. ، نِعْمَ ما رَبَّيْتِ يا ... أُمَّ وائل ...
وغَصَّ بالكَلِمات الأخِيرَةِ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ المملوءِ حَسْرَةً ..
- لَنْ أَرْضَى عَنْكَ حَتَّى تُطَلِّقَ هذه الخَبيثةَ وتُعِيدَها لبَيتِ أَهْلِها الذي جاءَتْنا مِنْهُ .
- أَرْجُوكِ يا أُمّي اطْلُبي مني أَيَّ شَيءٍ غَيرَ هَذا ، أُحِبُّ زَوجَتي وَهِي لم تَفْعَلْ ما تَستَحِقُّ بِهِ هذا الحُكْمَ القَاسِي ، اصْبِرِي عَلَيْها يا أُمُّ والأيَّامُ كَفيلَةٌ بِرأْبِ الصَّدْعِ بَيْنَكُما ، فَقَطْ اصْبرِي عَليْها .. أرجوكِ .
- لم ولن أُحِبَّها ولا أَحْتَمِلُ عِنادَها ومَكرَها وغُرورَها ، طَلِّقْها يا بُنَيَّ وسَأُزَوِجُّك مِمَّن هِي خَيرٌ مِنها أَلفَ مَرَّة .
قَطَعَ الشّارعَ الفاصِلَ بِسُرعَةٍ ساعِيًا للاقْترابِ مِنْها ، وسارَ خَلْفَ المَوْكِبِ الذي كان يَتَقَدَّمُ سَريعًا تِلْقاءَ الحارَةِ القَديمَةِ التي احتضَنَتْ مَنْزِلَهُما الصَّغيرَ . أَحَسَّ بِرَشَاقَةٍ رَغْمَ آلامِ الظَّهرِ والمفاصِلِ التي لا تُفارِقُهُ ، وتابَعَ الاقْتِرابَ حتى حَظِي بمَوْقِعٍ قَريبٍ .. إِلى جَنبِها .. خَلفَ وائِلٍ الذي لم يَنْتَبِهْ لِوُجودهِ وَهو يَنْظُرُ إِلَيهِ بِاعتِزازٍ وأَلَمٍ .
- الحمدُ لله عَلى سلامَتِكِ يا حَبيبتي ، إنَّه صَبيٌّ جَميلٌ ..كَأُمِّه .
- سَلَّمَكَ اللهُ وبارَكَ لَكَ فيهِ يا حَبيبي وَجَعَلَهُ مِنَ الصّالحِينَ ، أَرْجُو أَنْ تَراهُ رَجُلاً وتَفْرَحَ بِهِ .
- نَفْرَحُ بِهِ مَعًا إِنْ شاءَ اللهُ .
فاضَتْ عَيناهُ بِعَبَراتٍ ساخِنَةٍ والمَوْكِبُ يَتَجاوَزُ الحارَةَ القديمةَ والمنزلَ .
وَضَعَ يَدَهُ عَلى كَتِفِ وائِلٍ وأَوْمَأَ إِليهِ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ ..
- أَبي ! .. ظَهْرُكَ ..
- لا عَلَيْكَ يا بُنَيَّ أَعْطِني .. لا بُدَّ أَنْ أَحْمِلَها اليومَ .. لا بُدَّ أَنْ أَحْمِلَها .. لا بُدّ ..
الخَشَبَةُ الثَّقيلَةُ فَوقَ مَنْكِبِهِ خَفَّفَتْ كَرْبَ نَفْسِهِ وراحَتِ العَبَراتُ تَتَسابَقُ عَلى وَجْنَتَيهِ وَهِي تَفِيضُ مِنْ عَينَينِ امْتَلأَتا حُزْنًا وأسَفًا ...
- تُطَلِّقُني يا حَسَنْ !؟ .. تُطَلِّقُني ؟! .. آه ..يا وَيْلي .. تُطَلِّقُني يا حَسَنْ ؟! ، أأنتَ هذا أَم غَيرُك ، هَلْ فَقَدْتَ عَقْلَكْ ، ألا يكونُ إرْضاءُ الأُمِّ إلا بِظُلْمِ الزَّوْجَة ؟!
أيْنَ حُبُّكَ لي ؟! أين عَهْدُكْ ؟! أين إخْلاصُكْ ؟! ..أين وَفاؤُكْ ؟! أين أنْتْ ؟! أين حَسَنْ .. الذي أَحْبَبَتْ ؟!
كَلِماتٌ لم تُفارِقْهُ طَوالَ رُبْعِ قَرْنٍ .. بَقِيَتْ محفُورةً تَحْتَ رُوحِهِ فَلا تُغادِرُ إلاّ بَعْدَها .
حاوَلَ وائلٌ أَنْ يُريحَ أباهُ الذي لَفَتَ إليهِ نَظَر المُشَيِّعينَ الذين ما كانُوا يَعرِفونَهُ وأَثارَ اسْتِغرابَهُم ، لِكِنَّهُ بَقِيَ مُتَمَسِّكًا بِعارِضَةِ النَّعشِ وكَأَنّهُ يَضُمُّ يَدَها حَتّى وَصَلتِ الجَنَازَةُ إلى مَقْبَرَةِ الحَيِّ الكَبيرةِ .
- ما بِيَدِي حِيلَةٌ يا سُمَيَّةُ .. إنَّها أُمِّي ولا يُمْكِنُني إِغْضابُها .. حَياتي في هذا الجَحيمِ بَينَكُما لَم تَعُدْ تُطاقُ .. صَدِّقيني يا سُمَيَّة ، إنَّ خُروجَ رُوحي لأهْونُ عَلَيَّ مِنْ فِراقِكِ .. اعْتَني بِنَفْسِكِ وبِوائِلٍ .. ابنِنا ..
سامِحيني يا سُمَيَّة .. سامحيني .. سامحيني يا حبيبتي ..
التُّرابُ الذي بَدأَ يَنْهالُ على اللَّحْدِ أَزاحَ ما بَقِيَ مِنْ غُبارٍ عَلى ذِكْراها الطَّيِّبةِ وعادَتْ غَضَّةً تَنْبِضُ بالحياةِ .
عَانَقَ حَسَنُ وَلَدَهُ الوَحِيدَ عِناقًا طَويلاً باكِيًا وَقَفَلَ راجِعًا عَلى طَريقِ المسْجِدِ .
**************************