أيها السائلُ عني من أنا !!
أنا من اغتُصَبتْ فلولُ عزتي في أيدي المعتدي , ونزفتْ شرايينُ عروبتي في كأسِِ خمرٍ في يدِه. كأسٌ يضربُ كأساً وخثراتُ دمي تهوي في حلوقِهم صارخةً يشربون نخبَ غدرهم فوق أطلالِ مجدي, وتتناثرُ أصواتُ ضرباتِ كؤوسِهم... شظايا مسمومةً مستقرةً في رأسي, وتتبخترُ ضحكاتُهم في فجورٍ.. تتحرشُ بأذنِ العربِ الصماءِ.
أنا من أسيرُ مثقلةَ الأحمالِ ينوءُ ظهري بحمله, أحملُ رأسًا .. شُوه بقضيبٍ من عبثٍ, أبحثُ له عن بقايا جسدٍ, وطفلًا تتدلى أحشاؤه؛ أحاولُ رَتقها فتعودُ وتتدلى فوق جدرٍ شيباءِ الشعرِ... نسِيَتها ورودُها, واستَوَطنتها أراملٌ سوداءٌ, تصْطفُ تنعي أزواجًا يمتطون صهوةَ أشلائِهم المتبعثرةِ في الطرقِ.
أيها السائلُ عني من أنا !!
أنا نصفُ امرأةٍ.. فقدتْ ثديَها وذراعَها , وأبٌ مقسومٌ شطرينْ؛ شطرًا يبحثُ عن أشلاءِ أبنائِه في الشوارعِ وعلي الأرصفةِ.. وشطرًا تركُه خلفَه يموتُ خوفاً علي بقايا زوجةٍ, وأمٌ ثكلي فقدتْ بصرَها خلفَ ابنٍ يفترشُ جلدَه ظلامُ السجون ويلتحفُ عنقَه المقصلةُ, وآخرٍ وَراهُ الثري؛ تتلمسُ يداها المبتورةُ أصابعِها – أذنَها المعلقةَ في سماءِ الليلِ يسحبُها خيطٌ هاربٌ خلفَ مقاتلتِه, تنتظرُ لحظةً غادرةً تقصفُ بآخرِ من تبقي لها
.
أنا شمسٌ عانسٌ؛ نام النومُ في جسدِها طويلاً وعندما استيقظَ, ماتتْ اليقظةُ؛ شمسٌ تنامُ وحيدةً باردةً في فراشٍ معفرٍ وتلفُ أشعتَها في خرقةٍ باليةٍ مرفوعةٍ كرايةٍ مستهلكةٍ فوقَ أطلالٍ كانتْ يوماً مملكةً؛ رايةٍ تحملُ آثارَ دماءٍ حمراءٍ وخيطَ ليلٍ أسودٍ كئيبٍ يعانقُ شريطًا لأفقٍ أبيضٍ محتضرٍ ينبضُ فيه اسمُ اللهِ الأكبرِ الذي لن تلونَه أبدًا أوحالُ مستنقعاتِهم.
أيها السائلُ عني من أنا !!
أنا أرضٌ صارتْ مقبرةً؛ لا حنينَ لها ولا ذاكرة. أشجاري جفتُ أوراقُها، والغصنُ فيها مُهترئٌ, وزهوري استحالتْ جِرارًا مقلوبةً, يختبئُ بها أشباهُ رجالٍ كانوا يوماً أسودَ عزةٍ. هُز الآنَ إليكَ بجزعِ الشجرِ, لن تجنيَ منها جنيًا ولا رطبًا بل سيسَّاقطُ عليكَ خوذةُ "صلاحِ الدين", وسيفُ "المنصوري", وترنيماتُ ابتهالٍ من فمِ "الهارون الرشيدي", ونفحاتٌ من دمِاءِ "علي" الطاهرةِ المسفوحةِ غدرًا.
أنا سماءٌ سكنتها الغربان, وطيورٌ عاريةٌ هجرتْ ريشَها واكتفتْ بصمتِ الحريق.. سُحبي تَُسقطُ قَطرًا ملوثاً بدماءِ الأبرياء, وحروفَ عُهرٍ وشظايا كؤوسِ طهرٍ كان. لَملمتْ سمائي نجومَها ونزلتْ إلي الظلماتِ؛ سجادة مبللة بطلقات لفظتها البنادق... تدوسها أقدامُ كلابٍ جائعةٍ لا تعرف الشبعَ .
أيها السائلُ عني من أنا !!
أنا ما عدت أعرفُ من أنا...
القلبُ الآن قنينةٌ فارغةٌ.. دماؤه تُعتقُ في زجاجاتٍ علي رفوفِ أقبيتِهم , وفي صناديقِ أوكارِهم. وما تبقي تقيأته مراحيضُهم. امتلأتْ الزجاجاتُ وفاضتْ, وضجتْ سدادتُها فانفجرتْ, وانطلقتْ ترسمُ قمرًا أحمرًا داميًا يتعلقُ في سماءِ كرامةٍ تنوحُ على عزِها.
مزقوا أوصالي: شرقي يقتاتُ حصىًً مغموسًا من عمقِ الجُرحِ, وغربي يستلقى صبارًا مصفرًا, كرَّدوا رأسي وموصلوها وشرَّدوها , بصَّرَّوُا قدميَّ ونجَّفوها وكوَّفوها, وقطَّعوها , وأقاموا موائدَهم من قلبي, يقتتاون من لحمِه ويشربون من نبضاتِه, بعدما بغددوها وكربلوها, وفلجوها وأبادوها .
جفَّ دجلي, واستحال ملحًا يتسولُ ماءً من دموعي, رياحُ اليأسِ تسكنُه, وتلفحُ شراعَ أملٍ ممزقٍ معلقٍ على ساريةِ الانتفاضةِ المغروسةِ على قاربِ نجاةٍ يعرجُ. قارب؛ بعدما انتهيتُ من صنعِه, جفَّ في دجلي شريانُ الأملِ.
وفراتي يتقيأ جثثًا.. ضع يدُك في مائِه, فيطفو لكَ جزءٌ من جسدي, وبعضٌ ثانٍ في الماءِ مع ألفِ ألفِ جزءٍ آخرٍ متعفنٍ. وبعضٌ ثالثٌ على شاطئِه القريبِ يلوحُ يائسًا لبعضٍ آخرٍ على شاطئِه البعيدِ.
أيها السائلُ عني من أنا؟
أنا ألفُ خذةٍ في وسادةِ التاريخِ, تحرمُ جفونَه النوم... وتسحبُ الغطاءَ عن وجهِه المجعدِ, وتصبغُ لحيتَه الشهباءَ بالأحمرِ القاني.... بالدمِ.
فهل عرفتَ الآن من أنا؟؟؟
إهداء:
إلى من قال لي بومًا
أنا لن أخرج من طيني وترابي
فأنا العراق
بكل ذرات طينه
هو لحمي ودمي
إلى الروح المقاتلة
إلى بطل السلام في صخب الحرب
إلى الذي نبضه .. الإنسان
إالى من فطمته أمه على حب الفرات
فما
خان
إلى خليل حلاوجي
ومليون خليل يحضن أرضه الصابرة تحت وطء المعاناة
ويتلقى عنها الطعنات
إلى العراق وفلسطين ولبنان
إلى كل أمة صابرة تنتظر مداد الرحمن