الوَرْقَاء
ــــ
رأيتها تجوب رحب الفضاء ،،، فدعوتها أن تحط على يدي لعلّي أتَّهِبُ منها هِبة الإلهام .
وما أن حطّت حتى وجدتها من المَفَاخِر ، ومظهر الخِيْم الصالح ، وجوهر الندى الطبيعي ،،، ثم نظَرَتْ فطغى منها حسنٌ على حسن ، حتى طننتُ ثَمَّ[1] نعيما وملكاً كبيرا .
فقلت لها : لم أنتِ دون السماء وفوق السحاب ؟
قالت : لم يبق من الشِيَمِ وأشباهها إلا عراقة الأصل .
قلت : أأعرابية أنتِ أيتها الورقاء ؟
قالت : ولا بُدّ أن تعرف ؟
قلت : ولا بد .
قالت : لماذا ؟
قلت : لأكون قد عرفت .
قالت : وإن جاورتُ البادِيْن[2] ، فلستُ بصاحبة نجعة وانتواء ، ولا أظعن بظعنهم ، بل كما ترى أروم التطيار حيث الأنفة والحرية والإباء ،،،.
قلت : الإباء !!! ولم التأبّي يا ذات سِحْر ؟
قالت بِدَلّ : لأني الأنثى ، ثم غَشِيَتْها سحابة حزن ،،، فانتفضتْ طاردة ما أحزنها وقالت : لأن الوحش ليس ببعيد ، لا يجيد إلا تَغْيِيْب نابه في الفريسة يعُبّ مما تسيل فيه .
قلت : أطربيني يا ورقاء ، وألهميني الإبداع .
أطرقتْ ساعة كأنها تنظر في سالفٍ مضى ،،، ثم فاءت بعد أن رجعت كالوردة أصابها الريّ ،،، وما أن عَمَّها ناموس الرّقّة حتى خَلَدَتْ إلى التَرْجِيْعِ[3] بعد التأمل والإنعام ، وما اعتاص عليها نغم ،،، تالله ما اعتاص عليها نغم .
قلت : ما لي أرى الغُنّة نهجا مسلوكا ،،، والدمع يُنفق مسفوكا ؟
قالت : تلك أنا ، بحرٌ وسماء ،،، وهذا ما وضع اللهُ فيّ وأنشأ .
قلت : هل وُضِعَ لكِ ضَرِيبك من التحنان ، ونَدِيْدكِ من الترجيع ؟
ضَحِكَتْ ثم قالت : لستُ أدري .
قلت : لو رآكِ كشاجم[4] أيتها الورقاء لترك سيف الدولة ، أو لاح شخصك لأبي المُحَسَّد[5] لقرّ في الأرض وانشغل بعنايتكِ .
ثم انتبهت وقالت : مهلاً ،،، أطلتَ المكث وأكثرتَ التسئآل ! من أنت ؟
قلت : أنا الذئب !!!!!!!! .
راعتْ المسكينة وارتعدتْ ثم تأهّبت لِتَثِب ، فوضعتُ يدي اليسرى على ظهرها برفق وقلت لها : ما بكِ ؟
قالت بصوت يتردد وخيفة تعتريها : ذئب !!! ثم اسْتَجْمَعَتْ ، بعضا على بعض كأنه الاستسلام ، فَرَقّ قلبي لها ومسحتُ رأسها بالسبابة والإبهام ،،، وقلت لها :
لا عليكِ أيتها الورقاء ، قرّي عينا ،،، أنا الذئب ولا كذئب ! ،،، أنا ،، أنا ذئب يوسف !!!! .
قالت بعد أن استعادت عازب رُشدها : أنت ذئب يوسف ؟؟؟ أنت أشرف الذئاب ؟؟؟ أنت البريء ؟ أنت المظلوم ؟ .
ثم قالت : أبا سرحان[6] ،،، والله إن الله ليجعل على الكذب حقيقة تدمغه ،،، ليت شِعْري كيف جاؤوا على قميصه بدم كذب !!! وقالوا بعد أن جاؤوا أباهم عشاء يبكون ،،، لقد أكله الذئب !!! .
قلت : يا ورقاء ،،، إنه الحسد ، ولا شيء غير الحسد .
ابتسمت وقالت : أطعمني !!! .
قلت بتعجب : ماذا !؟ .
قالت : قلت لكَ أطعمني ، وهشّت على يدي بجناحها .
قلت لها مازحا : ألا تخافي أن آكلكِ الساعة ؟
قالت ضاحكة : بل أنا آكلك إن لم أطْعَم الساعة ،،، وبيدك هذه ! .
ضحكتُ وقلت لها : ليس معي إلا أربعة أحرف ، هن على التوالي ( ؟ ، ؟ ، ؟ ، ؟ ) ، فإن تزودتِ بهن ، هل تبلغي عنان السماء ؟
قالت بعد أن تأمّلت الحروف بتعجب : ( هذا اسمي ) !!! ، ويحك يا ذئب ، كيف آكل نفسي !! ؟
قلت : ماذا ؟؟؟
قالت : أنا روحها ! .
قلت : وكيف ذاك ؟
قالت : أوَ ليست الأرواح جنود مجندة ؟
قلت : بلى .
قالت : أوَ ليست الروح تخرج من الجسد حال نومه ، وترجع إليه ليفيق منه ؟ .
قلت : هاه ،،، بلى .
قالت : إذن ،،، فعلتُها .
قلت : إي وربي قد فعلتِها ،،، وقد أُصْحِبْتِ من القرينة بما يوضح هويتكِ يا ورقاء .
ثم أقلعت وحامت بعد أن قطعت عهدا أن تعود ،،، أما وقد تَكَلّفت العهد ، فوالذي قال لعيسى كن بلا أب ،،، فكان ،،، لتعود .
ــــــــــــــــــــــــ
تلك هي ( هي ) فمن عرفها فقد عرفها ومن لم يعرفها فلينظر إلى ريق القلم ليعرف .
ــــــــــــــــــــــــ
حسين الطلاع
11/ يناير/ 2009 م
المملكة العربية السعودية - الجبيل
[1] ثَمّ أي هناك
[2] البادين هم البدو
[3] الترجيع هو غناء الحمامة
[4] كشاجم هو شاعر سيف الدولة
[5] هو أبو الطيب المتنبي
[6] كُنية الذئب