كَمْ هُوَ عَجِيبٌ حَالُ الـمُحِبِّينَ! لا يَزَالُونَ فِي وِفَاقٍ وَتَـمَامِ اتَّفَاقٍ عَلَى كُلِّ مَا يَكُونُ مِنْ أُمُورٍ الـجَلائِلِ مِنْهَا وَالدِّقَاقِ. يَسْتَهِمُونَ فِي ذَاتِ الرَّوْحِ ، وَيَسْهمُونَ فِي ذَاتِ الدَّوْحِ ، وَيَسْتَلْهمُونَ مِنْ ذَاتِ البَّوْحِ ، حَتَّى إِذَا بِلَغَ نَصِيبُ الـحَدِيثِ نِصَابَ الشِّغَافِ وَوَجَبَتْ عَلَى الـمَشَاعِرِ زَكَاةُ اعْتِرَافٍ ارْتَدَّ عَنْ شَرْعِ ائْتِلافِهِمَا عَرْشُ اخْتِلافِهِمَا ، وَنَكَصَ الرِّضَا عَلَى عَقِبَيهِ يَتْبَعُ خَطْوَ كُلَّ ذِي عِوَجٍ مِنْ عَيْنٍ وَقَافٍ ؛ كُلٌّ يَزْعُمُ بِأَنَّهُ فِي رِيقِ العِشْقِ السُّلافُ وَفِي عَرِيقِ الشَّوْقِ اللُؤْلُؤُ وَالأَصْدَافُ.
وَلَئِنْ كَانَ فِي مِعْيَارِ العِشْقِ وَالشَّوْقِ بَعْضُ اخْتِلافٍ فَلَيسَ فِي اعْتِبَارِ الصِّدْقِ وَالذَّوْقِ ثَـمَّةَ خِلافٍ ؛ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُـحِبٍّ يَرَى بِعَينِ قَلْبِهِ وَيَقْضِي بِحُكْمِ إِحْسَاسِهِ ، وَيَسْعَى أَبَدًا إِلَى تَـمَامِ العَطَاءِ وَإِكْرَامِ الصَّفَاءِ وَالتِزَامِ الوَفَاءِ. وَإِنَّ كُلَّ مُـحِبٍّ لأَحْرَصُ عَلَى حَبِيبِهِ فِي حُضُورٍ وَفِي سُرُورٍ وَفِي ظُهُورٍ خَلا المَشَاعِرِ ، فَهُوَ لا يَنْفَكُّ يُنَافِسُهُ فِيهَا مُنَافَسَةَ الشَّمْسِ لِلقَمَرِ أَيُّهُمَا فِي الحِسِّ أَسْبَقُ وَأَبْهَرُ ، وَمُنَافَسَةَ النَّرْجِسِ لِليَاسَمِينِ أَيُّهُمَا فِي النَّفْسِ أَعْبَقُ وَأَزْهَرُ.
مَا أَوْحَشَ شَاطِئَ القَلْبِ الـمُغْرَمِ حِينَ تَعْصِفُ بِهِ أَنْوَاءُ الشَّوْقِ كُلَّ مَسَاءٍ ؛ تَرْتَطِمُ بِإِسْفَنْجِ شِغَافِهِ أَمْوَاجُ الفَقْدِ لاهِبَةً صَاخِبَةً بِـهَدِيرِ اللَّهْفَةِ الـهَارِبَةِ ، وَتَسْرِي فِي رِمَالِهِ السَّاهِيَةِ رَعْشَةٌ بَارِدَةٌ مِنْ مَوْجَةٍ جَارِفَةٍ إِثْرَ مَوْجَةٍ جَارِفَةٍ ، وَبَقَايَا مِنْ هَسِيسِ مَاءِ الوَحْدَةِ الـمَالِحِ فِي أَذُنِ حَبِيسِ الوَقْتِ الكَالِحِ. وَدَمْعَةٌ عَلَى خَدِّ فُؤَادٍ فَارِغٍ لَمْ يَهُزَّهُ يَوْمًا أَمْرٌ مِثْلُ انْحِنَاءِ خَرِيفِ نَخْلٍ عَلَى عُشْبِ رَبِيعٍ ، وَمِثْلُ انْتِحَاءِ زَيْتُونَةِ دَهْرٍ عَلَى قَارِعَةِ الإِهْمَالِ وَالتَّهْمِيشِ.
هُنَا أَتَّـخِذُ مِنْ تَعَلُّقِي بِكِ مُتَّكَأً ؛ هُنَا حَيثُ أَبْنِي بِحُلُمِ الِلقَاءِ بِكِ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَنَّةَ انْتِظَارٍ وَارِفَةَ الظِّلالِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أَنْهَارُ أَلَـمٍ وَأَمَلٍ ، وَيُحَلِّقُ فِي أُفُقِهَا الفَسِيحِ نَوَارِسُ يَقِينٍ كُلَمَّا أَزَّهَا بَرْزَخُ الرِّيحِ صَاحَتْ مِنْ لَوْعَةِ الرُّوحِ ، وَعَصَافِيرُ حَنِينٍ كُلَّمَا هَزَّهَا الوَجْدُ غَنَّتْ بِلَحْنِهَا الـمَلائِكِيِّ فِي أَيْكِ القَلْبِ قَصَائِدَ شَوْقٍ لِلقَمَرِ.
أَجَلْ ، إِنَّ حُبِّي أَكْبَرُ ، وَإِنَّ شَوْقِي إِلَيْكِ يَكُونُ أَكْثَرَ ، وَإِنَّ كُلَّ مَا فِي هَذِهِ الغُرْبَةِ الـحَدْبَاءِ الـمُمْتَدَّةِ مِنْ دَهَالِيزِ وَحْشَةِ الـمَكَانِ إِلَى أَخَادِيدِ دَهْشَةِ الزَّمَانِ يَقُودُنِي إِلَيكِ - فِي كُلِّ حِينٍ - وَطَنًا لا أسْتَبْدِلُهُ بِكُلِّ أَطْيَافِ النَّعِيمِ ، وَسَاعَةَ أَرَاكِ وَلا أَجِدُكِ أَشْتَكِي إِلَى الرَّحْمَنِ لَوْعَةَ الـحِرْمَانِ وَأُطْرِق فِي صَمْتٍ مُوْغِلٍ وَأَنِينٍ مُذْهِلٍ. وَأَبْتَسِمُ ؛ وَقَدْ حَاكَ فِي النَّفْسِ إِثْـمُ اللُّجُوءِ العَاطِفِيِّ إِلَيكِ وَوَهْمُ النَّهْلِ مِنْ سَرَابِ العِشْقِ الذِي كُلَّمَا تَدَانَـى إِشْفَاقًا تَنَاءَى رِقْرَاقًا ، ثُمَّ أَشْعَلَ ذُبَالَةَ القَلْبِ بِالأَنِينِ.
وَأَنَا لا أَزَالُ هُنَا أَمَامَكِ ؛ أُمَارِسُ فِي حَضْرَةِ الـجَفَافِ طُقُوسَ ابْتِهَالٍ لِلغَيثِ وَالـمَطَرِ ، وَأُؤَدِّي فِي رِحَابِ العَفَافِ صَلاةَ اسْتِسْقَاءٍ بِدِفْءٍ يُذِيبُ جَلِيدَ بَرَارِي صَبْرِي وَقِفَارِ دَهْرِي ، وَبِرِفْقٍ يُحْيِي كَانُونَ عُمْرِي بِنِيسَانِ حَنَانِكِ وَزُهُورَ أَحْلامِي بِعَبِيرِ أَيَّامِكِ. أَنَا لا أَزَالُ هُنَا ؛ أَنْسُجُ مِنْ حَرِيرِ تَوْقِي إِلَيكِ عَبَاءَةً تُزّيِّنُ جِيدَ بَسْمَتِكِ ، وَمِنْ وَثِيرِ حِرْصِي عَلَيكِ مِلاءَةً تُدَّفِئُ صَدْرَكِ وَتُدَثِّرُ ظَهْرَكِ. أَنَا لا أَزَالُ هُنَا ؛ أُطَرِّزُ مِنْ جَواهِرِ اللُغَةِ ثَوْبَ خُلْدٍ لَكِ لا يَبْلَى ، وَسَأَظَلُّ - مَا عِشْتُ - أَبْـحَثُ عَاكِفًا عَنْ كُلِّ سَبِيلٍ يُوْصِلُنِي إِلَى مَدَارِ هَنَاكِ ، وَعْنْ كُلِّ دَلِيلٍ يُرْشِدُنِـي إِلَى مُسْتَقَرِّ رِضَاكِ.