رحلة في ذاكرة اجزم *
15/5/1948 النكبة الفلسطينية
إنها أول ما بنى الباني على الأرض، هنا على الجانب الجنوبي لجبل الكرمل العظيم، هنا بدأت الحياة ، وهنا كان الربان قبل شراع السفين، هنا التكوين الأول للغة العشق، هنا تشكيل اللوحة واللون، هنا ارض الخيل والخيالة الذين أسرجوا صهوة الزمان ودورة العشق الأبدي التي امتصوا نسغها ، هنا الحياة التي أحب ، التجوال دون أي جهة محددة، بيسر وسهولة تحت أشعة قبة البهاء، حياة تمحو ذاكرة أيار وتعطي الحرية الكاملة ، إني لشديد النزوع لان امضي الحياة بين ذرات التراب واحدة واحدة تاركا لبنطالي أن يهترأ كيفما يشاء.
و بينما كنت احمل معولي حارثا حديقة بيت جدي ، ظهر لي جدي قائلا : أنت تبدو كفلاح أدمن الأرض والمعول، هذا ما قاله لي ومضى يذرع سهوب اجزم الواسعة ، بين الخروب والسريس، كان قد قدم لي شربة ماء ، ومسح حبيبات الندى عن جبيني .
بعدها صخبت ذاكرتي برنين كرنين الأجراس، مستعيدة من أودية موغلة في الذاكرة، متعة الانتماء للمكان ، والهبوب النشوان للنسائم السخية، والإصغاء عبر الأضواء المتلاشية لوشوشات الكرمل الثلجية، هنا كانت صلاتي الأولى في حضرة الأماكن المقدسة ، وهنا كانت إطلالتي الأولى على البحر فيما وراء الصخور الوردية.
لقد هجر الخريف قلبي ، وحل الربيع محله، الترحيب الذي استقبلتني به الأماكن -التي بدت مألوفة- غير ما اعتدته من ترحيب، ولا يخلف في صدري غير صدى خافت وممتد حتى أقصاه، و ابتسمت ، ليس بفمي فقط ، بل بروحي ، بعيني ، بمسام جلدي، ومنحت هذه الدروب، وهذه النسمات العطرة المندفعة نحوي ، حواس جديدة ما كنت امتلكها قبلا، حواس أكثر رقة، واشد صمتا، وأَحَدُ مضاء ، وأعمق امتنانا.
قال: كنت قد أوصيت والدك أن يدفنني هنا تحت شجرة التوت هذه ، فالتراب هنا من طهر النرجس و المريمية تفوح منه أنفاس فردوس الملكوت ، المكان هنا اقرب ما يكون من الله .
كان وجه جدي غضا ربيعيا نديا خاليا من علامات الأزمنة الموغلة في النسيان والمرض الذي لازمه حتى موته.
سألني : لماذا تعود إلي حلما ، لماذا تأتي خادعا الصورة والحقيقة ، لماذا تحتال بالذاكرة حتى تصل إلي والى اجزم ؟.
يا جدي: كل شيء هو لي الآن أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد حنيني يرسم بألوانه الباردة المسافات المحتجبة عنها، فعيناي لم تعد تطمحان إلى أكثر مما هو موجد ، ذلك لأنهما تعلمتا كيف تبصران الآن.
ثم أردف قائلا: ذاك هو كرمنا، أتلمسه باليدين ؟، فاندفعت الصورة بنعومة بالغة إلى مقدمة العقل ، الآن أنا اعلم حدود الممكن ، ففي ذلك المكان كان يجلس أبي صبيا صغيرا ، خداه متوردان ، وعيونه أفق يطير بها اليمام، ولكني لم أتوجه إليه بأي سؤال، كل ما فعلته أني أدمت النظر إلى عينيه ، كان يشبهني ، ولأشد ما كان يشبه ذاته التي دفعتني دفعا قويا إلى عشق ذلك الأفق المستحم بالضياء.
كل ذلك كان مؤلما، ولكنه كان كل متعتي، آه كم أحببته طوال تلك الساعات، لقد غدا أجمل.
ورغم أني الآن وحيد في رحلتي الأسطورية، فإنني لم أشكو الوحدة، لا أريد للحياة إلا أن تكون ما هي عليه الآن ، بي لهف عارم للموت والولادة من جديد.
وفجأة بدا كل شيء واضحا أيتها الساحرة الرائعة الجمال والهانئة على سفح الكرمل ، حتى أنني ما تعلمت اللغة إلا بعد اسمك، حتى انه ما من رجل ما استطاع أن يروضك أيتها المهر الشموس سواي ، ولكني رجل محكوم بالاختفاء بعد حين عن دروبك المشمسة التي انزاحت عنها الأشجار والآجام ، وأفسحت مجالا للعشب الندي والورد ، إنني انتمي إلى تلك الدروب الماضية بانعطافاتها الفرحة إلى نبع ماء الحياة، الدروب التي تعشقت نساء اجزم، التي تعشق العشق وحسب.
هكذا بهذه الطريقة خُلقتُ في اجزم وخُلقت فيّ ، فأنا من بناها وهي من عمرت روحي وكستني ألقا ، ليست مغامرة وليست هذيان ، هي نوع من التوق والانبعاث، انه انبعاث اللاوعي نحو تبديد الكابوس والخرافة، انه تبعثر الحب في الطرق إليها ، انه تقصي السعادة الذي يمنحني إياه خيال البيت وسور الحديقة .
أيتها المرأة الشابة ، يا ذات الوجه الجميل في نيتي إخصاب حبك وشهي جسدك، وبي صحوة يقين، إنها البداية ، لقد مُنحتُ الحب على طول الطريق إليك، وتألق شعاع الشمس في كأسي الخمري ، أنت التي جعلت بإمكاني ا ن أحب العالم واكرهه.
آه ، أيها النزف العميق ، يا حلم الساعة ، إنني لأهب كل ما تبقى من روحي وأيامي لدرب حملتني إليها ، ولسماء رفعتني إليها قطعة سحابة في النهار، ممطرا شجوي وحنيني ، ساقيا كرمها وشاهقا بلا زفير رائحة خبزها ، من اجلها رسمت حياتي خريطة لدرب الفدائيين في وديانها ، من اجلها صليت لحلم قال إنها لازالت هنا تنتظر ، ومن اجلها سوف اكتب على أديم الأرض ببندقية الأمل إنني من هنا ، من اجزم.
وسيأتي يوم لن يبقى فيه شيء من كل تلك الأشياء التي شوهت حياتي وملأتها بالكآبة، وأترعتني بالكرب مرارا، سيأتي يوم بعد أن يصل الإنهاك حده، تجمعني الأرض الرؤوم بموطني، ولن تكون تلك خاتمة للأشياء، بل طريقة للولادة المتجددة، حيث القديم والذاوي يغرقان، وحيث الفتي والجديد يشرعان بالتنفس.
عندئذ، وبأفكار مختلفة، سوف أتنزه على الطرقات ، مصغيا للجداول ، مسترقا السمع إلى ما تقول السماء في المساء، مرارا وتكرارا.
* اجزم قريتي الرائعة ، من قضاء مدينة حيفا ، مضى على احتلالها وتشريد أهلها \ 23304\ أيام