أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 23

الموضوع: رحلة في ذاكرة اجزم

  1. #1
    الصورة الرمزية عمر الحجار أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    الدولة : حيفا \ اجزم
    العمر : 53
    المشاركات : 767
    المواضيع : 37
    الردود : 767
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي رحلة في ذاكرة اجزم

    رحلة في ذاكرة اجزم *



    15/5/1948 النكبة الفلسطينية


    إنها أول ما بنى الباني على الأرض، هنا على الجانب الجنوبي لجبل الكرمل العظيم، هنا بدأت الحياة ، وهنا كان الربان قبل شراع السفين، هنا التكوين الأول للغة العشق، هنا تشكيل اللوحة واللون، هنا ارض الخيل والخيالة الذين أسرجوا صهوة الزمان ودورة العشق الأبدي التي امتصوا نسغها ، هنا الحياة التي أحب ، التجوال دون أي جهة محددة، بيسر وسهولة تحت أشعة قبة البهاء، حياة تمحو ذاكرة أيار وتعطي الحرية الكاملة ، إني لشديد النزوع لان امضي الحياة بين ذرات التراب واحدة واحدة تاركا لبنطالي أن يهترأ كيفما يشاء.
    و بينما كنت احمل معولي حارثا حديقة بيت جدي ، ظهر لي جدي قائلا : أنت تبدو كفلاح أدمن الأرض والمعول، هذا ما قاله لي ومضى يذرع سهوب اجزم الواسعة ، بين الخروب والسريس، كان قد قدم لي شربة ماء ، ومسح حبيبات الندى عن جبيني .
    بعدها صخبت ذاكرتي برنين كرنين الأجراس، مستعيدة من أودية موغلة في الذاكرة، متعة الانتماء للمكان ، والهبوب النشوان للنسائم السخية، والإصغاء عبر الأضواء المتلاشية لوشوشات الكرمل الثلجية، هنا كانت صلاتي الأولى في حضرة الأماكن المقدسة ، وهنا كانت إطلالتي الأولى على البحر فيما وراء الصخور الوردية.
    لقد هجر الخريف قلبي ، وحل الربيع محله، الترحيب الذي استقبلتني به الأماكن -التي بدت مألوفة- غير ما اعتدته من ترحيب، ولا يخلف في صدري غير صدى خافت وممتد حتى أقصاه، و ابتسمت ، ليس بفمي فقط ، بل بروحي ، بعيني ، بمسام جلدي، ومنحت هذه الدروب، وهذه النسمات العطرة المندفعة نحوي ، حواس جديدة ما كنت امتلكها قبلا، حواس أكثر رقة، واشد صمتا، وأَحَدُ مضاء ، وأعمق امتنانا.
    قال: كنت قد أوصيت والدك أن يدفنني هنا تحت شجرة التوت هذه ، فالتراب هنا من طهر النرجس و المريمية تفوح منه أنفاس فردوس الملكوت ، المكان هنا اقرب ما يكون من الله .
    كان وجه جدي غضا ربيعيا نديا خاليا من علامات الأزمنة الموغلة في النسيان والمرض الذي لازمه حتى موته.
    سألني : لماذا تعود إلي حلما ، لماذا تأتي خادعا الصورة والحقيقة ، لماذا تحتال بالذاكرة حتى تصل إلي والى اجزم ؟.
    يا جدي: كل شيء هو لي الآن أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد حنيني يرسم بألوانه الباردة المسافات المحتجبة عنها، فعيناي لم تعد تطمحان إلى أكثر مما هو موجد ، ذلك لأنهما تعلمتا كيف تبصران الآن.
    ثم أردف قائلا: ذاك هو كرمنا، أتلمسه باليدين ؟، فاندفعت الصورة بنعومة بالغة إلى مقدمة العقل ، الآن أنا اعلم حدود الممكن ، ففي ذلك المكان كان يجلس أبي صبيا صغيرا ، خداه متوردان ، وعيونه أفق يطير بها اليمام، ولكني لم أتوجه إليه بأي سؤال، كل ما فعلته أني أدمت النظر إلى عينيه ، كان يشبهني ، ولأشد ما كان يشبه ذاته التي دفعتني دفعا قويا إلى عشق ذلك الأفق المستحم بالضياء.
    كل ذلك كان مؤلما، ولكنه كان كل متعتي، آه كم أحببته طوال تلك الساعات، لقد غدا أجمل.
    ورغم أني الآن وحيد في رحلتي الأسطورية، فإنني لم أشكو الوحدة، لا أريد للحياة إلا أن تكون ما هي عليه الآن ، بي لهف عارم للموت والولادة من جديد.
    وفجأة بدا كل شيء واضحا أيتها الساحرة الرائعة الجمال والهانئة على سفح الكرمل ، حتى أنني ما تعلمت اللغة إلا بعد اسمك، حتى انه ما من رجل ما استطاع أن يروضك أيتها المهر الشموس سواي ، ولكني رجل محكوم بالاختفاء بعد حين عن دروبك المشمسة التي انزاحت عنها الأشجار والآجام ، وأفسحت مجالا للعشب الندي والورد ، إنني انتمي إلى تلك الدروب الماضية بانعطافاتها الفرحة إلى نبع ماء الحياة، الدروب التي تعشقت نساء اجزم، التي تعشق العشق وحسب.
    هكذا بهذه الطريقة خُلقتُ في اجزم وخُلقت فيّ ، فأنا من بناها وهي من عمرت روحي وكستني ألقا ، ليست مغامرة وليست هذيان ، هي نوع من التوق والانبعاث، انه انبعاث اللاوعي نحو تبديد الكابوس والخرافة، انه تبعثر الحب في الطرق إليها ، انه تقصي السعادة الذي يمنحني إياه خيال البيت وسور الحديقة .
    أيتها المرأة الشابة ، يا ذات الوجه الجميل في نيتي إخصاب حبك وشهي جسدك، وبي صحوة يقين، إنها البداية ، لقد مُنحتُ الحب على طول الطريق إليك، وتألق شعاع الشمس في كأسي الخمري ، أنت التي جعلت بإمكاني ا ن أحب العالم واكرهه.
    آه ، أيها النزف العميق ، يا حلم الساعة ، إنني لأهب كل ما تبقى من روحي وأيامي لدرب حملتني إليها ، ولسماء رفعتني إليها قطعة سحابة في النهار، ممطرا شجوي وحنيني ، ساقيا كرمها وشاهقا بلا زفير رائحة خبزها ، من اجلها رسمت حياتي خريطة لدرب الفدائيين في وديانها ، من اجلها صليت لحلم قال إنها لازالت هنا تنتظر ، ومن اجلها سوف اكتب على أديم الأرض ببندقية الأمل إنني من هنا ، من اجزم.
    وسيأتي يوم لن يبقى فيه شيء من كل تلك الأشياء التي شوهت حياتي وملأتها بالكآبة، وأترعتني بالكرب مرارا، سيأتي يوم بعد أن يصل الإنهاك حده، تجمعني الأرض الرؤوم بموطني، ولن تكون تلك خاتمة للأشياء، بل طريقة للولادة المتجددة، حيث القديم والذاوي يغرقان، وحيث الفتي والجديد يشرعان بالتنفس.
    عندئذ، وبأفكار مختلفة، سوف أتنزه على الطرقات ، مصغيا للجداول ، مسترقا السمع إلى ما تقول السماء في المساء، مرارا وتكرارا.




    * اجزم قريتي الرائعة ، من قضاء مدينة حيفا ، مضى على احتلالها وتشريد أهلها \ 23304\ أيام
    وأنا الذهاب المستمر إلى البلاد

  2. #2
    الصورة الرمزية وليد عارف الرشيد شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2011
    الدولة : سورية
    العمر : 60
    المشاركات : 6,280
    المواضيع : 88
    الردود : 6280
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    الله الله ... كم أجدت العزف بالكلمات والتنهيد بنفحات المشاعر
    جلست مطولًا أمام هذا الألق وأحببت اجزم كثيرًا أيها المبدع الجميل
    للسحر بين حروفك مواضع لا يفارقها فدم بهذا الإبداع
    محبتي وكثير تقديري

  3. #3
    الصورة الرمزية سامية الحربي أديبة
    غصن الحربي

    تاريخ التسجيل : Sep 2011
    المشاركات : 1,578
    المواضيع : 60
    الردود : 1578
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    أعتقد أنني سأقرأ هذا الألق مرة تلو أخرى . آسر هذا الحرف الشجي المثقل بالذكريات . تحية لأرض الصمود والعز ولأجزم . تحياتي وتقديري.

  4. #4
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    المشاركات : 6,061
    المواضيع : 182
    الردود : 6061
    المعدل اليومي : 0.91

    افتراضي

    و ابتسمت ، ليس بفمي فقط ، بل بروحي ، بعيني ، بمسام جلدي، ومنحت هذه الدروب، وهذه النسمات العطرة المندفعة نحوي ، حواس جديدة ما كنت امتلكها قبلا، حواس أكثر رقة، واشد صمتا، وأَحَدُ مضاء ، وأعمق امتنانا.



    السلام عليكم أخي العزيز عمر الحجار
    هذة المشاعر التي أشعلتها في هذا النص ,هي مشاعرنا جميعا نحن أبناء ما بعد النكبة
    من رأى تلك الأماكن الممنطقة بالشوق والحنين رآها ,ومن لم يرها يعرفها بروحه وقلبه وعقله وحواسه
    نص أكبر من الروعة ,تسرب للقلب مع رائحة التراب النادي ,وزهور الليمون والزيتون
    أرضنا ليست ككل أرض ,إنها أقوى من الزمن والنكبة واللجوء والتشرد والفناء ,أكبر من كل الأشياء
    سلمت يدك أخي
    رائع ,,أبدعت
    ماسة

  5. #5
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Dec 2009
    المشاركات : 3,601
    المواضيع : 26
    الردود : 3601
    المعدل اليومي : 0.69

    افتراضي

    الاستاذ الكبير عمر الحجار

    وحدها الامكنة من تصنع ازمنتنا تلك التي تعبق بحنين مراحل مترامية الشوق في صدور لا تملك الا عشقها حد الهذيان
    وما قرات هنا الا هذيان عاشق اصابه من حمى الحلم نوبات امل والم من آن معا


    رائع واكثر

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.68

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عمر الحجار مشاهدة المشاركة
    ورغم أني الآن وحيد في رحلتي الأسطورية، فإنني لم أشكو الوحدة، لا أريد للحياة إلا أن تكون ما هي عليه الآن ، بي لهف عارم للموت والولادة من جديد.
    ****
    هكذا بهذه الطريقة خُلقتُ في اجزم وخُلقت فيّ ، فأنا من بناها وهي من عمرت روحي وكستني ألقا ، ليست مغامرة وليست هذيان ، هي نوع من التوق والانبعاث، انه انبعاث اللاوعي نحو تبديد الكابوس والخرافة، انه تبعثر الحب في الطرق إليها ، انه تقصي السعادة الذي يمنحني إياه خيال البيت وسور الحديقة .

    آه ، أيها النزف العميق ، يا حلم الساعة ، إنني لأهب كل ما تبقى من روحي وأيامي لدرب حملتني إليها ، ولسماء رفعتني إليها قطعة سحابة في النهار، ممطرا شجوي وحنيني ، ساقيا كرمها وشاهقا بلا زفير رائحة خبزها ، من اجلها رسمت حياتي خريطة لدرب الفدائيين في وديانها ، من اجلها صليت لحلم قال إنها لازالت هنا تنتظر ، ومن اجلها سوف اكتب على أديم الأرض ببندقية الأمل إنني من هنا

    أتراها أحلامنا تشطن بنا لمتاهات الوجع فنمارس طقوس الاغتسال الوطني بالدموع، أم أنه الوجع يسكننا فتنبجس صخرة الصبر الصلدة في القلوب عيون دمع إذ تضربها عصا الحروف الحيّة؟
    تستحق أوطاننا منا ما يتجاوز البكاء ، لكنهم جردونا من كلذ ما عداه، فهل سنستعيد يوما أيدينا لنقاوم

    أوجعني هذا النص برحلته القاسية في لا وعي اغترابنا القسري

    تحيتي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 2,069
    المواضيع : 373
    الردود : 2069
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي

    تصوير بديع لخلجات النفس
    وحوار يؤصل الفكرة في القلب والعقل
    شددتني إلى مقالك وآنستني بأسلوبك المتناسق

  8. #8
    الصورة الرمزية عمر الحجار أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    الدولة : حيفا \ اجزم
    العمر : 53
    المشاركات : 767
    المواضيع : 37
    الردود : 767
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة وليد عارف الرشيد مشاهدة المشاركة
    الله الله ... كم أجدت العزف بالكلمات والتنهيد بنفحات المشاعر
    جلست مطولًا أمام هذا الألق وأحببت اجزم كثيرًا أيها المبدع الجميل
    للسحر بين حروفك مواضع لا يفارقها فدم بهذا الإبداع
    محبتي وكثير تقديري


    الاستاذ وليد عارف رشيد


    انه الوطن الذي نستحيل بين يديه نايا وقيثارة ، هي اجزم التي تحب وتعشق

    اشكرك سيدي واشكر انتماءك الصادق العميق الذي يعبر عن فهم لكنه الوطن والمأساة


    اشكرك سيدي

  9. #9
    الصورة الرمزية عمر الحجار أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    الدولة : حيفا \ اجزم
    العمر : 53
    المشاركات : 767
    المواضيع : 37
    الردود : 767
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غصن الحربي مشاهدة المشاركة
    أعتقد أنني سأقرأ هذا الألق مرة تلو أخرى . آسر هذا الحرف الشجي المثقل بالذكريات . تحية لأرض الصمود والعز ولأجزم . تحياتي وتقديري.


    اخي غصن حربي


    مرحب بك وبقراءتك ليس هنا فقط بل وفي اجزم ايضا ، حيث ستكون معنا على درب العودة في يوم قريب


    القاك هناك وهنا

  10. #10
    الصورة الرمزية عمر الحجار أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    الدولة : حيفا \ اجزم
    العمر : 53
    المشاركات : 767
    المواضيع : 37
    الردود : 767
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمه عبد القادر مشاهدة المشاركة
    و ابتسمت ، ليس بفمي فقط ، بل بروحي ، بعيني ، بمسام جلدي، ومنحت هذه الدروب، وهذه النسمات العطرة المندفعة نحوي ، حواس جديدة ما كنت امتلكها قبلا، حواس أكثر رقة، واشد صمتا، وأَحَدُ مضاء ، وأعمق امتنانا.



    السلام عليكم أخي العزيز عمر الحجار
    هذة المشاعر التي أشعلتها في هذا النص ,هي مشاعرنا جميعا نحن أبناء ما بعد النكبة
    من رأى تلك الأماكن الممنطقة بالشوق والحنين رآها ,ومن لم يرها يعرفها بروحه وقلبه وعقله وحواسه
    نص أكبر من الروعة ,تسرب للقلب مع رائحة التراب النادي ,وزهور الليمون والزيتون
    أرضنا ليست ككل أرض ,إنها أقوى من الزمن والنكبة واللجوء والتشرد والفناء ,أكبر من كل الأشياء
    سلمت يدك أخي
    رائع ,,أبدعت
    ماسة

    الاخت القديرة فاطمة عبد القادر


    هي فلسطين الوجع ، هي فلسطين الامل ، هي من المسار اليها ، وهي المآل والموئل ، هي فلسطيننا.


    دمت فلسطينية كحد السيف كالمنجل

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. اجزم قريبة مني
    بواسطة وائل راشد في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 13-09-2014, 07:40 PM
  2. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
    بواسطة نعيمه الهاشمي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 24-12-2005, 09:04 PM
  3. يَا نَبِيَّ اللَّهِ .. أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ
    بواسطة قلب الليل في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 10-05-2005, 06:22 AM
  4. الصمت فيّ أبلغ من الكلام
    بواسطة إدريس الشعشوعي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 03-05-2005, 07:32 PM
  5. "هَمسَةٌ فِي أُذنِك..."
    بواسطة hedaya في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 21-10-2004, 10:35 PM