كما تولد الزهور في الحقول ، وكما تولد الإبتسامة على شفاه الصغار ، وكما يولد الحلم في أول النهار ، ولدت فاطمة ، أمسكتها القابلة بين يديها وهي تتمتم بمجموعة من الصلوات ، رفعت الأم رأسها بألم وحيرة وهي تسأل عن جنس المولود ، فقد أقسم زوجها أن يطلقها إن كان المولود أنثى ، أو يقتلهما معا بالضرب والعذاب ، ابتسمت القابلة العجوز ابتسامة جافة وهي تهمس للأم . ما شاء الله ، عروس ، عروس أجمل من البدر وأبهى من اللؤلؤ في مياه المحيط ، عادت الأم بهدوء يشبه الموت إلى فراشها ، وعينيها تفيض دموعا ، وقلبها يحترق ألما ، وكان آخر ماقالته : سيقتلها إنه مجنون ولا يعرف قلبه الرحمة ولا الشفقة ، سيقتلها ، سيقتلها ، سيقتلها …
كان الوالد ينتظر والشرر يتطاير من عينيه ، وفجأة فُتح الباب ، وإذا بالعجوز قادمة نحوه تحمل شيئا ملفوفا في ثوب أبيض ، وقف وعينيه مركزتين مرة على المولود ومرة على وجه القابلة التي تتصنع الإبتسامة ، توقعه ولد ، مد يديه ليمسكه ، لكن العجوز تسرعت بالسؤال: مبارك عليك ، ماذا ستسميها ؟؟ .سحب يديه وكأنه أصيب بصدمة كهربائية ،فوجئت القابلة بهذا القرار ، وسألته ، ألا تمسكها ؟ إنها أجمل من ….لكن الأب لم يأبه لتعليقها وانصرف خارجا ووجهه مسود من شدة الغضب .وازدادت صدمتها عندما سمعته يصرخ بأعلى صوته :إرمها في الزبالة مع أمها …كل العصافير زارت بيت فاطمة ، والأشجار شدت نشيدا حزينا ، سألت القابلة نفسها عن سر هذا الجفاء ، فعرفت بعذ ذلك الجواب ، فقط لأنها فاطمة …
عاشت فاطمة حياة بؤس وحرمان ، سافرت عبر كل أنواع المأساة ، توغلت في الأسئلة، أسئلة كثيرة ، لكنها بجواب واحد ، فقط لأنها فاطمة …انتظرت زوال الظلم طويلا ، وكلما كبرت أحست بوطأته تزداد ، لم تعش طفولتها ولم تعرف لها مذاقا كل الأيام كانت تحمل قصيدة واحدة مضمونها الحزن والمأساة وعنوانها الألم ، في سنها السادسة بدأت تفقد الحضن الصامت الوحيد في حياتها ، أمها التي من شدة صدمتها يوم ولدت ، توقفت تماما عن الكلام ، وبدأت تفقد القدرة عن الحركة كلما ازدادت وطأة الألم عليها وعلى ابنتها إلى أن أصيبت بشلل نصفي ثم بشلل رباعي ، وهاهي الآن تفقد الإحساس كليا ، …طبخت فاطمة الطعام ، وجلبت الحطب من الحقول وسقت الماء من البئر ..وتلقت مقابل ذلك الصفع والشتم والرفس بالأرجل وقدفت مرات عديدة كما تقدف الكرة … فقط لأنها فاطمة … لم تسمع يوما مديحا من والدها أو كلمة شكر أو حتى ابتسامة شاردة منه ، مواويل الإهانات أصبحت عادية بالنسبة لها بسبب أو بدون سبب ، وكم كانت الأسـباب تافــــــــــــــهة ومختلقة : الطعام مالح ، الماء بارد ، الباب مفتوح ، الزيت كثير ، الخبز أسود …تمنت أن ترفع يد والدها يوما لاحتضانها ، لكنها كلما ارتفعت تهوي على وجهها الناعم الخجول بالصفع ، تمنت أن تتحرك شفتيه يوما لتقبيلها ، لكن شفتيه لا تتحرك إلا لتبصق أوتدم ، فقط لأنها فاطمة ….
فاطمة الهادئة ، فاطمة الذكية ، بدأت تكبر ، بدأ كل شيء من حولها يحمل طابعا آخر ، بدأت أحلامها تكبر ، لكنها لم تتعلم على الإطلاق لم تقرأ في مدرسة ولا في كتاب ، لكن هذا لم يمنعها من أن تحلم … تحلم بالتغيير ، إعتقدت أن والدها سيحترمها أكثر وسيقدرها أكثر، لكنها كلما رمقت عينيه تتأمل جسدها تمنت لو أنها لم تكبر ، وكلما كبرت ازدادت كراهيته لها وقسوته عليها ، أصبح يراقب كل صغيرة فيها ، أصبح يبحث حتى في أشيائها الخاصة ، وماهي أشياؤها الخاصة ؟؟ ليست سوى بعض ما تسميه ب"الشراوط " تجمعها على شكل كومة ملفوفة في إحدى المناديل الذي تغطي به رأسها في ركن من أركان غرفتها الحقيرة ، فقط لأنها فاطمة ؟؟؟
حاولت فاطمة أكثر من مرة الهروب ، لكن إلى أين ؟ ففي كل مكان ستجد نفس الوجوه التي لا ترحم ، وسيقال عنها الشيء الكثير والكثير ، وسرعان ما عادت فاطمة لهدوءها وتخلت عن فكرة الهروب . وهي ذاهبة إلى البئر تحس أن عيون الناس تأكلها ، تخترق جسدها النحيف ، تبتعد ، تهرب ، ولا تجدها أمامها إلا غرفتها الحقيرة ، وفراشها المليء بالرقع ، وتظل تبكي ، وتبكي إلى أن تتعب ثم تنام …نامت فاطمة وهي تحلم بعالم جديد ، عالم أكثر عدلا ، وتقديرا للبشر ، حلمت فاطمة أن أباها يتغير ، يصبح أكثر حنانا وعطفا ، حلمت به يحضنها ، ويقول أنت ابنتي ، أنت أغلى مالدي في هذا الكون بأسره ، وفي نفس اللحظة دخل الأب غرفتها متسللا ، تأملها باحتقار وهي تبتسم في نومها ،توجه بسرعة نحو المطبخ حمل في يده عصا كبيرة ، وأسرع نحوها وبدأ يضربها إلى أن أوشكت على الموت ، بعدها تساءلت فاطمة ماذنبها فعرفت أنه ليس من حقها أيضا أن تحلم ، حتى لوكان الحلم بمعانقة والدها ، طرحــت الســـؤال المعتــــاد على نفســــها ، فكان الجــــواب نفســـــه : فقط لأنها فاطمة ..
أخذت فاطمة قنينة صغيرة من المطبخ ، سمعت والدها مرة يقول أنه سم للفئران ، وقفت وسط باحة المنزل ، أعادت شريط حياتها المضطرب ، المليء بالصفع والشتم والإهانات والإحتقار ، تذكرت أمها وهي تحتضر ، تذكرت فاطمة الصغيرة وهي تكبر ، …ثم شربت من القنينة إلى حد الإرتواء ، وضعت القنينة جانبا ، وتمددت بهدوء تام وسكينة ، رأت نفسها وهي تمتطي بساطا أبيض وتطير فوق عالم أخضر لتكتشف كل العوالم التي لم تراها أبدا في حياة البشر ، التقت بأمها في منعرجاته وسبحا معا في الأفق البعيد …
فتح الأب كعادته الباب بعنف وهو ينادي بكلمات نابية ، وبأسماء حقيرة إلا إسم فاطمة فهو لم ينطق به إطلاقا منذ خروجها إلى الوجود …لكن فاطمة كانت في عالم آخر ، حملق الأب في القنينة الموضوعة إلى جانب فاطمة الممددة ، ذعر لهول المشهد ، تأمل وجهها كثيرا لأول مرة ، ولأول مرة عرف كم هي جميلة ابنته فاطمة ، وكم هي رقيقة وعذبة كالنسيم ، صرخ باسمها لأول مرة ،انحنى على ركبتيه ، لامس يديها الباردتين ، حملها من دراعيها ولأول مرة ضمها إليه ، آه ، كم كانت المسكينة في أمس الحاجة لهذا الحضن ، لكن فات الأوان …ولم يبق إلا الجسد ، وكأن لسان حالها يقول : إن كان جسدي مايخيفك ، فها هو خذه وادفنه في التراب ، بكى وانتحب ، لم يترك مكانا في وجه فاطمة إلا قبله ، لكن فات الأوان ، وما تفيد القبل والحب والحنان بعد طول الحرمان ، …ماتت فاطمة ، ذبلت الزهرة الفواحة ، ماتت الإبتسامة البريئة ، وانتهى الحلم وسط عتمة المكان والزمان ، ماتت فاطمة فقط لأنها فاطمة …
خرج الأب إلى الشارع حافي القدمين ، أشعث الشعر وبين يديه جسد فاطمة ، ازدحم الناس وتحلقوا حوله وكثر الكلام والفضول ، لكن الأب كان يقول ، مالكم هذه فاطمة ، لست وحدي من قتلها فلكل منكم فاطمة ، وكلكم تبصقون في وجه فاطمة ، كلكم تهينون فاطمة ، كلكم تصفعون فاطمة ، تحرمون فاطمة من الحنان والحب والعطف ، كلكم تقتلون فاطمة ، تقتلون فاطمة ، تقتلون فاطمة ………فقط لأنها فاطمة .
قرية أولاد سليمان زاكورة بتاريخ 11/05/2000