قصة قصيرة
بقلم الكاتب القاص
تيسير الغصين

الحافلة


مقعد قديم متآكل و(كوميدينو) اقترب لونها من السواد لكثرة ما عفا عليها الزمن، ومرآةٌ كبيرةٌ متشققةٌ عُلِّقتْ فوقَ جدارٍ باهت اللون في غرفة صغيرة، بأحد البيوت القرميدية، الممتدة على طول مخيم الشاطئ.
أعقابُ السجائر المطفأة تناثرت هنا وهناك، وفي زوايا الغرفة، بعدما اكتظت المنفضة بالأعقاب .. ساعةُ منبه صدئة تُصدر دقاتٍ مزعجة كأنها جرس المدرسة المقيت، انبعث رنينها فجأة حين أشارت عقاربها إلى تمام الرابعة فجرا، هذا الرنين كم يمقته!! فكثيراً ما يحرمه لذَّة النومِ في ساعاتٍ الفجر المبكرة. يذكر مدى انزعاجه لصوت المنبه، المنبعث من غرفة والديه، حين كان يدرس في مدرسة الزيتون الابتدائية، لكن دفء الفراش آنذاك كان يزيده رغبة في مواصلة نومه ولو لدقائق إضافية قليلة، إلا أنّ متعته لم تكن لتدوم طويلا، إذ سرعان ما كان صوت أمه يتسلل إلى مسامعه موقظا .. إذن لا فائدة من الاستمرار أكثر من ذلك.
ـ انهض يا كسول ..كفاك نوما ..
تهتف والدته حاسرة الغطاء عن رأسه، فيتمتم في لهجة متراخية:
ـ صاحي .. صاحي ..
ولم يكن جوابه ليقنعها، فتكرر عبارتها له مرات عديدة، فيهتف في حنق :
ـ قلت لك صاحي .. أي خلص روحي عاد!!
تغيبُ الوالدة، لتعد طعام الإفطار، بعد أن نجحت في إيقاظ جميع أفراد أسرتها، كانت تحرص على أن يتناول الجميع إفطارهم قبل الذهاب للمدرسة، وحكمتها في ذلك، أن العلم لا يَثبُت في الرأس إلا إذا كانت المعدة محشوة بالطعام جيداً، وحبذا لو كان هذا الطعام طبقاً من الفول بالحامض وزيت الزيتون البلدي.
منذ ذلك الحين، ودقاتُ الساعة تقترن في ذاكرته بالتنغيص، وعدم الارتياح، ومواجهة الهواء القارس، وربما المطر الغزير، والأوحال التي تسد أزقة المخيم النتنة، فطابور المدرسة الصباحي ، ومن ثم التفتيش على الشعر والأظافر، ثم عصا مدرس الحساب !! أمّا الآن، فها هي الدقاتُ تعلنُ تمامَ الرابعة فجراً، ذلك يعني النهوض قبل رحيل حافلة العمل التي سَتُقِله إلى مصنع (رافي) للبلاستيك على مشارف مدينة يافا.
قفز عن سريره الحديدي القديم .. فرك عينيه براحة كفه .. حملق بعقارب الساعة، وكأنه يلعنها في داخله عشرات المرات .. نظر طالع وجهه في المرآة، ثم أخذ يداعبُ لحيته بأنامله، مستشعرا ضرورة حلاقتها، لكن الوقتَ يجري في غير صالحه!! خطا نحو النافذة ليشرعها، فانبعثت على الفور خيوط الفجر الفضية، المتصارعة مع بقايا سواد الليل المنهزم .. رمى بناظريه شزرا، ثم تأمل بعض السحابات الرمادية الداكنة، الجاثمة فوق أديم السماء كمحتل متغطرس .. قفل النافذة متأففا .. تناول معطفه القديم .. تأمله لحظات، ثم دس جسده داخله عن غير رضا .. جالت عيناه في أنحاء الغرفة المتواضعة .. وقع بصره على الكيس (النايلون) الذي أعدته له والدته مساء البارحة .. انتزعه من مكانه .. حملق بداخله .. حبتان من البندورة .. بيضتان ورغيفُ خبزٍ واحد .. ارتسمت على شفتيه ابتسامة هزيلة وهو يتأمل الكيس بين يديه .. شعر بالعطف تجاه أمه لطول معاناتها واهتمامها به وبإخوته رغم تقدمها في العمر .
دقات على باب الحجرة، وصوت حنون يتسلل إلى مسامعه ..
ـ محمود .. هل استيقظت يا بني؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة، ثم هتف مجيبا:
ـ أجل يا أمي .. تعالي ..
انشق الباب، ودلفت تحمل كوبا من الشاي الساخن، وسندويشا محشواً بالجبن:
ـ خذ يا بني .. تناول هذا، وأدفيء معدتك بكوبٍ من الشاي الساخن.
رمقها مشفقا وهمس:
ـ لست أدري لِمَ تثقلين على نفسك يا أمي بكل هذا العناء ؟!
ـ لا تقل ذلك يا محمود .. كان الله في عونك، على هذا الزمن الصعب.
ـ حسناً سأشربُ الشاي ..
ـ وهذا الساندويش علشان خاطري.
يقضم الجبن على عجل .. يعقبه برشفتين من الشاي، ثم ينطلق مهرولا باتجاه الطريق، وما يزال صوتها يتهادى إلى مسامعه متمتمة بالدعاء ..
***
فلول الظلام المنهزم، ما تزال تحاول جاهدة الصمود، أمام تقدم الفجر الزاحف بإصرار وعناد .. نسمةٌ باردة هَبَتْ من صوب البحر، اهتزت لها أوراق الشجر، المطل من بين أسطح البيوت القرميدية. وفي نهايات أزقة المخيم الموحية بالكآبة كمدينة مهجورة إلا من بعض العمال الذين خرجوا مبكرين كعادتهم، للبحث عن لقمة العيش ..
تَسَرّب إلى سمعه صوتُ محرك عربة بدت بعيدة، ثم ازداد ضجيجها شيئا فشيئا .. التفتَ إلى الخلفِ .. توقفَ عن السير .. انتظَرَ لحظات .. خُيِّل له أنها تمشي على بيض لشدة بُطئها، مد يده مشيرا، توقفت، رمى بصره داخلها .. العربة مكتظة بركابها، لا يوجد مكان لبرغوث واحد!!
ـ اصعد .. (هتف السائق على عجل)
جال ببصره داخل العربة في حيرة، اصطدمت نظراته، بعيون الركَّاب المذهولة وأنفاسهم المختنقة.
ـ خذوه بينكم يا شباب .. هتف السائق مرة أخرى ثم أضاف:
ـ علينا أن نتحمل بعضنا بعضا ..
ـ لا يدري كيف استطاع أن يدس جسده بينهم. وارتفع صراخُ المحركِ مستنجدا ذوي القلوب الرحيمة!
انعطفت العربةُ باتجاه شارع الجلاء، لتواصل سيرها بعد ذلك عبر شارع عمر المختار، وفي محطة الحافلات المركزية بالقرب من مبنى البريد توقفت .. هبط من العربة على عجل، وقبل أن يُطلق ساقيه للريح تذكر أنه لم يدفع الأجرة للسائق .. دس يده في جيب بنطاله باحثا عن قطعة معدنية .. اصطدمت أصابعه بورقة نقدية، تفحص بقية جيوبه دون جدوى.
التقط القطعة الورقية .. دقق نظره فيها مسترشدا بضوء العربات المارة ..
ـ هيا يا أستاذ! (هتف السائق بعصبية)
.. يبدو أني قد نسيت الفكة في الدار !!
دفع بالقطعة الورقية إلى السائق في ارتباك .. تفحصها الأخير بدهشة .. هتف بحنق:
ـ خمسون ليرة!!، يا فتاح يا عليم !!
ـ شوف لي ليرة فكة وحياة أبوك ..
تحسس جيوبه للمرة العشرين .. ثم هتف في تبرم :
ـ لا يوجد معي فكة !!.
.. تفحص ساعته قلِقَا ..أمّا يوم أغبر هذا! سأتأخر عن حافلة المصنع!
أخرج السائق محفظة نقوده، وأخذ يعد أوراقه المالية بداخلها .. عشرة .. عشرون .. ثلاثون .. أربعون .. خمسة وأربعون ليرة ..
وتلفت إلى الشاب مخاطبا:
ـ خمسٌ وأربعون ليرة هذا كل ما عندي.
ـ والباقي؟!
هتف السائق وقد ضاق صدره:
ـ يا أخي ماذا أفعل لك؟! أعطني ليرة فكة وخلصني !!
.. انطلقت قدماه تشق ازدحام العمال الذين اكتظت بهم أرصفة الطريق في انتظار الحافلات، والعربات التي سَتُقِلهم إلى أماكن عملهم متمتما:
.. بِعوِّض ربنا .. أربع ليرات يا ابن الكلب! مش كان أربعة كيلو سكر الدار أبدى فيهم .. أخ ..أخ!!
اصطدم بأحد العُمال الراكضين باتجاه عربة أجرة كان سائقها ينادي بأعلى صوته .. يافا راكب واحد لـ يافا ..
ـ يا أخي مش تفتح عينيك !! (هتف العامل)
ـ أنا اللي أفتح ولاّ أنتَ؟!!
ـ طيِّب بس لو ما كنت مستعجل كنت وريتك ..
ـ يا أخي تعال باطح!
هتف رجلٌ عجوز كان يمر بالمكان :
ـ استهدوا بالله، الدنيا الصبح يا شباب.. قولوا لا إله إلا الله ..
ـ لا إله إلا الله .. محمد رسول الله ..
تمتم بكلماته وتفحص ساعته للمرة الأخيرة .. زفر متبرما .. سارع الخُطى.. لم يجد الوقت الكافي لشراء الفلافل كعادته .. ها هي الحافلة ما تزال في موقفها لم تتحرك بعد .. خطوات ويدركها .. اركض يا محمود.. اركض .. انتظر ..
وا أسفاه.. لا فائدة.. الحافلةُ تتحرك!! لوَّحَ لها بِكلتَي يديه .. لا أحد يبالي.. زادَ من سرعته لعل وعسى .. لكن الحافلةَ أخرجت من مؤخرتها دفعةً كثيفةً من الدخان الأسود، مصحوبا بصوتٍ يشبه الانفجار، ثم انطلقت عجلاتها العملاقة تنهب الطريق ..
.. توقف عن الهرولة.. أسقطَ رأسه بين كتفيه في غيظ.. ضغطَ على نواجذه بغضب، ثم تنهد قليلا، وهو يتابع الحافلة المبتعدة عن ناظريه شيئا فشيئا..