قصة قصيرة بقلم:
الكاتب القاص
تيسير الغصين


من أطلق الرصاص

النعاسُ يثقلُ أجفانَها، ومتعته تغريها بالبقاءِ مُتَدثرةً بفراشِ سريرها المتواضع.. تحاملت على نفسها، ونهضت بتكاسلٍ شديد.. تحسست المكانَ إلى جوارِها، وحين لم تعثر كفها على جسدهِ هَبّت منتفضة.. تسللَ القلقُ إلى قلبها.. أزاحت ستارةَ النافذة.. انتشرَ فضاءُ الفجرِ الفضي يملأُ المكانَ على الفور.. هاهو الفجرُ قادم، وعقاربُ الساعةِ تشير إلى الخامسةِ ودقائق. هتفت باسمه دون إجابة.. تملكتها أحاسيسٌ لم تستشعرها من قبل.. خوفٌ قلقٌ تثيرها الأشياءُ من حولِها.. نباتاتُ الزينةِ وانعكاساتُ الظلِ والضوءِ عليها، بدت كشبحٍ يركنُ إلى زاويةِ الغرفة.. تحفةُ الفارس مُمتطياً جواده الأسود انعكست في ذهنها لأولِ وهلة كوحشٍ يتربَصُها.. حتى ستارة النافذة، تخيلتْ وكأن شخصاً ما يختفي خلفها.. هتفتْ باسمه من جديد.. تراءت لها الأشياءُ من حولِها، كأنها ترددُ صوتها المبحوح.. رائحةُ الخوفِ تزكمُ قلبها.. تهرولُ في اتجاهاتٍ مختلفةٍ.. لعله في المطبخ يصنعُ قهوتَه المُفضلة، أو غرفة مكتبة يستثمرُ بواكيرَ النهارِ، يَخطُ أفكاراً خطرت لـه.. أنّاتٍ اعتملت في ذهنه، فاستلَ ريشتهُ للمبارزة.‏
توقفتْ عند البابِ.. زفرتْ من أعماقِها بارتياحِ طفلٍ مُلتاع استقر بين ذراعي أمه.. هاهو لم يبرح مكانه منذ الليل، ينكفئ على مكتبه، بين أوراقِه ورسوماتِه.. تختلطُ ملامحُه بملامِحِهِم، بعد أن امتزجتْ أنّاتُه بأناتهم، وتلونت شرايينهم، بانعكاساتِ الظلِ والضوءِ الباهتِ.. خطوطٌ تشابكت، تداخلت، وتنافرتْ، وبين ثنايا تعرجاتِها، تكشَّفت رائحة نتنة، امتزجت بعطرٍ أرستقراطي متعجرف بدا واهياً أمامَ جثةٍ، تعفنت، واقتحمتْ رائحتُها العقولَ، وثنايا العظام حتى العظام، وبين مفارقاتِ الظل والضوء، تداخلت الهواجسُ المظلمة تصطبغُ بألوانٍ متباينة فشلت كل محاولات وأدها.. كيف تركته يواصلُ ليلَه بنهاره، لتغط في نومٍ عميق، بعدما عَجَزَتْ عن متابعة السهرِ إلى جوارِه، وهو يُسطرُ خُطوطَه، فوق وريقاتِه دون ملل، لتحتلَ رسوماتِه صفحاتِ الجرائدِ عند الصباح، حتى غافله النوم.. مالتْ يدُه.. استراحت أصابُعه.. سقط القلمُ جانباً، وانكفأ رأسُه فوق الطاولة، كان يحلم بوطنٍ بهي الطلعة.. بابتسامةٍ تظللُ الوجوهَ البائسة، بمدرسةٍ ومستشفى ونسمة تعبق برائحة الياسمين، وبريشته تشقُ ظلامَ الشاحبين بحدةٍ موجعة تُوْغِلُ في الأعماق، تستأصلُ اللحمَ عن العظم، وتعيدُ الكتابةَ منقوطةً بتفاصيلها، كي يستيقظ ذاك النائمُ في قُمقُمِه، ولتشتعل أجراسُ الخطرِ المدفونةِ في الأعماق.. مجاهد.. انهض.. تململ قليلاً، رفع رأسه.. فتح عينيه على ملامحها!..
ـ طاب صباحك، أجهدَتَ نفسكَ بما لا تطيق..
نهض متثاقلاً، وراح يلملمُ أوراقَه المبعثرة.
ـ سأصنع لك القهوة..
أحس بدوار.. أوشك أن يترنح.. أمسكَ بذراعها.. طَوقته بكلتي يديها..
ـ وجهك شاحب!! سأقودك إلى غرفة نومنا..
ـ بل اشرب القهوةَ وأمضِي..
ـ لا تقسُ على نفسك وعليَّ..
حدّقَ في وجهها.. شد على يدها.. رشفَ رشفتَه الأخيرةَ، ومضى..
طلقاتُ رصاصٍ مزّقَت صمتَ المكانِ من حولها، أحستْ وكأن قلبَها هو الهدف.. أخذت أفكارُها تعمل كحاسبة آلية، تقيسُ الزمنَ ما بين خروج زوجها وصوتُ الرصاصِ.. يمتزجُ الحسابُ بالعواطفِ ليتمخضَ الهاجسُ المخيف يشعل في جوفها بركاناً من الخوف والغضب.. ارتجفت أوصالها.. أيغتال الرصاص ريشة فنان مرهف؟! أتدك سنابك البغال وريقات زهرة ناعمة..!!؟؟‏
ترفضُ أن تستسلمَ لشجونها.. تطبق أجفانها كي لا ترى بقعةَ دمٍ، وجثة تلثم الثرى وأوراقاً انطبعت على صفحاتها ورودٌ حمراء!! بجوارها قلمٌ حطمته رصاصة حمقاء؟؟‏
اندفعت ترتدي ملابسها على عجل، فتحت البابَ بعنف وأطلقت ساقيها للريح.. الأصواتُ في الخارجِ تعلو.. الأخبارُ تنتقلُ. من شخص لآخر كالبرق، من اللبان إلى الجزار إلى الفاكهاني.. ما الذي حدث؟! من أطلق الرصاص؟! ومن الذي قُتل؟!.. "الأصوات تتشابك والكل يركض ويصرخ..؟!" مجاهد!! أين زوجي؟؟.‏
أحدهم يروي.. أنا رأيتُ القاتلَ، كان يرتدي معطفاً رمادياً، وعلى عينيه نظارة سوداء، أطلق الرصاص وهرب.. آخر "يتحدث في ذعر مروّع:.. كان المسكينُ يهم بإيقاف عربة أجرة عندما سقط مخضباً بدمه".! آخر: "كان يحمل أوراقاً وصحفاً كثيرة.. مسكين".‏
أحاديثُ الناس تخترق قلبها فتؤجج خوفها نيراناً مستعرة.. لا ليس زوجي هو القتيل.. لابد أن يكون في مقره الآن.. نعم، لن يكون القتيلُ زوجي، لا أظن أن يصل بهم الأمر حد القتل.. أيقتلونه لمجرد أن ريشته لا تروق لهم؟!
شمس النهار تملأ الدنيا ضياءً ودفئاً.. تزداد على الأثر حركة المشاة والعربات، تمتزج الأصوات في ضجيجٍ صاخبٍ.. أسرعي يا نهلة.. أسرعي فموقع الحادث على بعد أمتارٍ من هنا عرباتُ الشرطة سدت المنافذ المؤدية للمكان، وعويل عربة الإسعاف تصم الآذان.. أمسكتْ بسترة شرطي بقوة.. من الضحية؟!‏
لم يُجبْ.. ظَنها متطفلة.. انصرفي من هنا لو سمحتِ.. أعادت السؤال.. ملامحُ وجهها تبدي اهتماماً غير عادي.. استنطقه جزعهاً.. "مجاهد" فنان الكاريكاتير الشهير.. (قالها الشرطي) وأشاح بوجهه عنها.. دوارٌ فظيع عَصَفَ برأسها.. أشباحٌ سوداء، كل ما أحست به من حولها، وكورقةٍ عجفاء سقطت بجوار الرصيف.‏