الفصل الاول

( 1 )

أدارت محرك السيارة بصعوبة بالغة، أصابع يدها ترتعش بعنف رغما عنها.. جسدها كله يرتجف.. في تصميم وعزم داست دواسة البنزين بقوة قبل أن ترفع قدمها اليسرى من فوق دواسة فصل الحركة.. فأنّت السيارة وأصدرت صريخا مخيفا بسبب احتكاك عجلاتها بالأسفلت، وأخذت تتلوى في طريق ضيّق بين عشرات السيارات على الجانبين مبتعدة عن مبنى المحكمة.. عندما ابتلعتها شوارع المدينة الجميلة بدا لها كل شيء مشوشا، معالم الطريق، إشارات المرور، أعمدة الكهرباء، الأشخاص الذين يعبرون الشارع في برود متناهي وغير مبالاة.. الدراجات البخارية التي كادت أن تصطدم بها أكثر من مرة.. لم تتوقف على جانب الطريق فلم تكن أدركت بعد أنها تبكي، وأن دموعها قد شكلت سحابة كثيفة على عدسات نظارتها الشمسية الأنيقة.. أفاقت من شرودها على صوت منبه حافلة كادت أن تصطدم ببابها وصوت سباب عال ينطلق من فم السائق.. وأصوات مكابح مرتفعة تتصاعد خلفها، أخيرا قررت أن تنعطف إلى شارع جانبي وخلعت نظارتها الشمسية ناظرة في مرآة السيارة، لتلمح عينين بلون ثمرتي الطماطم الناضجتين.. أمسكت حقيبة يدها وأخرجت منديلا ورقيا وأخذت تمسح عدسات نظارتها بشرود..

رأت محمود مقبلا عليها بابتسامته الباشة المعهودة، بطوله الفارع ونحافته الشديدة، ووجهه الأبيض ذو اللحية الخفيفة المهندمة، وشعره القصير جدا من جانبي الرأس على أحدث صيحة.. رأته يتوقف أمام سيارتها بجسارة وهو يقود دراجة بخارية فارهة يمتلكها صديق له.. بالكاد استطاعت أن توقف سيارتها في الوقت المناسب بعدما صرخت المكابح بعنف.. شهقت بقوة وكانت قد أغمضت عينيها فلم تتبين وجه قائد الدراجة البخارية بسبب انعكاس أشعة الشمس على الخوذة الصفراء اللامعة التي تخفي كثيرا من ملامحه.. قفز من فوق الدراجة أقبل عليها وهو يدق زجاج باب سيارتها بمرح.. صرخت وهي تفتح له الزجاج: أنت مجنون.. لقد كدت أصدمك بعنف.. لولا..

صاح بها قبل أن تجد الكلمات المناسبة: لولا ستر الله.. ألف مرة أحذرك من قيادة سيارتك وأنت شاردة..

قالت وفي صوتها رنة غضب حقيقية: وماذا لو لم أنتبه لجنون جنابك في اللحظة الأخيرة؟!..

هز كتفيه في استخفاف وقال: لا شيء.. كنت سأستدير بالماكينة بحركة بهلوانية رائعة وأسير أمامك أفسح لك الطريق أيتها الأميرة الحسناء..

ضحكت رغم أنها لم تكن قد سيطرت على كامل أعصابها بعد، تساءلت: وحتى تقنعني بعدم القيادة شاردة تلق بنفسك هكذا أمام سيارتي بجنون؟

رفع سبابته إلى شفتيه محذرا وهو يكتم ابتسامة عريضة: يجب عليك احترامي يا آنسة.. لن أسمح لك بوصفي بالجنون مرة أخرى.. يجب عليك أن تظهري لي قدرا من الاحترام أكثر من ذلك بكثير..

نظرت إليه بابتسامة هازئة لم تخفِ إعجابها المبطن بلهجته الجادة القوية وملامحه التي لوحتها شمس الصيف فزادت من وسامته.. تساءلت في محاولة لتبدي قدرا من الاستهانة: لماذا إن شاء الله؟.. هل قررت أن تتخلى عن جنونك لتصبح إنسانا محترما؟!

زام بشفتيه مصدرا أصواتا مبهمة، قبل أن يجيب: لا أظن أنني سأتخلى عن جنوني.. بالعكس أنا في هذه اللحظة مقبل على أكبر عمل مجنون في حياتي كلها.. عمي وافق يا سيدتي على موعد عقد الزواج.. الخميس بعد القادم!!

شهقت من الفرح والمفاجأة قبل أن يقفز بحركة بهلوانية عجيبة لتجده جوارها على المقعد الخالي في السيارة، اقترب منها إلى الدرجة التي جعلتها ترفع كفها في وجهه محذرة وهي تصرخ: تعقّل يا محمود.. نحن لسنا أزواجا بعد.. كما أننا في منتصف الشارع..

وقبل أن تنتهي من تحذيرها الصارخ، كان قد قفز في سرعة البرق قفزتين ليمتطي صهوة دراجة صديقه البخارية وينطلق بها من أمامها وهو يلوح لها بذراعه ويصيح: لو كنت ماهرة في قيادة سيارتك حقيقة فالحقي بي..

بعد ثوانٍ كان قد اختفى من أمام عينيها.. تبخّرت صورته فوق الدراجة البخارية.. تبدلت كليا ليظهر محمود من جديد في بدلة الإعدام الحمراء خلف قضبان قفص المحكمة، فارع الطول بين زملائه، رافع الرأس، يكتم دموع عينيه كلما التقت بعينيها من خلف الحواجز.. حتى هي كانت تداري لمعان دموعها عنه..

حاولت أن تمضي بسيارتها خلال الشارع الجانبي الذي انحرفت إليه منذ لحظات.. عادت السُحب الكثيفة على عدستي نظارتها الشمسية تحجب عنها الرؤية لم تعد ترى سوى محمود، رغم ضجيج الشارع العاج بالمارة وأصوات الضوضاء المنبعثة من المحلات الصغيرة المحيطة بها لم تعد تسمع سوى صوت محمود يجلجل في المحكمة، بعدما سمح له رئيس محكمة النقض بالحديث عن نفسه.. بدا لها محمود مستميتا في إثبات حقيقة ما.. إنها مؤمنة ببرائته.. كانت دوما مؤمنة ببرائته.. إيمانها ببرائته لم يتزعزع أمام الحكم بالإعدام الذي أصدرته عليه وعلى زملائه الخمسة محكمة الجنايات.. لكنها اليوم بعد سماعها له في المحكمة لم تعد فقط مؤمنة ببرائته، لقد صارت متيقنة من هذه البراءة تمام اليقين.. تشعر أنه كان يستصرخها يستنجد بها لتفعل شيئا من أجله.. تفعل شيئا حتى ولو كان مجنونا – كما كانت أفعاله كلها مجنونة من قبل- لإنقاذه من حبل المشنقة، وهي عازمة على ألا تضيع دقيقة واحدة دون أن تفعل هذا الشيء ولو كان مجنونا.. هذا الشيء الذي لا تعرفه بعد ومع ذلك يتوجب عليها أن تفعله، ومن جديد داست دواسة البنزين بقوة لا تتناسب مع مساحة الشارع الجانبي الضيق الذي انعطفت إليه، مما جعل الجميع يلتفتون إليها في دهشة وهي تخرج من الجهة المقابلة إلى زحام الطريق الرئيس وعلى وجهها تصميم عنيد وهي تردد لنفسها: لا وقت للدموع يا لمياء.. لا وقت الآن للدموع..


لا تدري لمَ كانت أول صورة تخطر ببالها هي صورة الحاجة سهير!.. على كل حال لقد كانت الحاجة سهير هي الشخص الملائم تماما للمساعدة فيما اعتزمت القيام به..

من جديد تملأ صورة محمود الفراغ أمامها.. لا تتذكر أنها رأته بهذا القدر من الجدية والوسامة من قبل، لقد ظهر رأسه حليقا تماما، لا توجد به شعرة واحدة.. لم تنتبه من قبل إلى أن عينيه كحيلتين إلى هذا الحد الفاتن.. إنهما لا تبدوان كذلك أبدا إلا إذا حلق شعر رأسه تماما.. لقد بدا جسده أكثر هزالا ونحافة في حلته الحمراء التي تتسع لشخصين آخرين معه داخلها!!.. وعلى خدوده بدت آثار بعض الكدمات، وحول عنقه آثار حروق .. لكنه مع هذه الجدية والصرامة التي لم تكن تظهر منه إلا نادرا جدا، حتى إن لمياء لا تستطيع أن تتذكر له موقفا أو اثنين بدا فيهما جادا عاقلا رزينا.. بدا رغم هزاله وإعيائه العام وسيما إلى درجة حمقاء.. كأنه اختار المكان الخطأ والزمن الخطأ ليثبت لها أنها أبدا لن تعرف غيره ولن تحب سواه.. مجنون محمود.. إنه فعلا مجنون في أدق تفاصيله.. لكن جنونه هذا لم يمنعه أبدا من شيئين غريبين جدا في هذه الحياة، لم يمنعه من تفوق فذ في دراسته وحياته العلمية والعملية، فهو من الأوائل دائما في دراسته، وهو من أوائل دفعته في كلية الصيدلة جامعة المنصورة، والشيء الآخر قدرته على اكتساب إعجاب الناس حوله به، وحب أكثرهم له!! هناك حقيقة ثالثة تملأ كيانها الآن كما تملأ صورة محمود أمام المحكمة الفراغ بينها وبين زجاج (بربيز) سيارتها فلا ترى من الطريق غيره، إنها أيضا تحبه بجنون، إنها أيضا مجنونة – يجب أن تعترف لنفسها- في حب جنونه!.. محمود في وقفته الشامخة –بهزاله وإعيائه- خلف قضبان قفص المحكمة لم يتبقَ منه سوى روح، روح مخيفة في كبريائها وعزمها ووهجها.. إنها تخاف من هذه الروح المجنونة كما تعشقها، تخاف منها لأنها ببساطة تسكنها الآن، توجه قراراتها وتصرفاتها، فروح محمود هي التي تحكمها الآن وتتحكم..

انحرفت بالسيارة من جديد عن المسار التي كانت تسير فيه، توقفت على جانب طريق لم يكن ضيقه يسمح بالوقوف، فانطلقت من خلفها عشرات آلات التنبيه في ضيق وانفعال، لكنها تجاهلت حتى سباب سائقي سيارات الأجرة حولها، ونظرات فضولية لعابري الطريق، أو لعلها لم تنتبه لذلك كله.. أخذت تعبث بمحتويات حقيبة يدها، وعندما ملّت من البحث، ألقت محتويات الحقيبة على المقعد المجاور لها –ذات المقعد الذي امتلأ بحيوية وشطحات محمود عندما كان يركب معها سيارتها متخليّا عن سيارته المتهالكة-بعثرت المحتويات على كامل المقعد حتى ظهرت بطاقة تعريف باهتة كانت هي ما تبحث عنه وسط كومة من العاديات المهملة.. رفعتها أمام عينيها وقرأتها –ربما لأول مرة-:دسوقي فهمي دسوقي محام.. التقطت العنوان واحتفظت بالبطاقة أمامها.. وتحركت بسياراتها في الشارع بنفس الرعونة والحمق التي توقفت بهما معرقلة حركة المرور.. من جديد ارتفعت أصوات الاحتجاجات مع نباح عشرات آلات التنبيه.. ولم تعبأ.. في الحقيقة لم تكن لمياء من قبل رعناء ولا حمقاء.. حتى قيادتها للسيارة كانت هادئة رزينة في المجمل، لم يكن يشوبها إلا شائبة واحدة، أنها كانت تقود وهي شاردة أحيانا.. ومحمود هو أكثر من كان يحذّرها وينهاها عن القيادة وهي على هذه الحالة من الشرود، هتفت حانقة: الأبله.. لم يكن يعرف أبدا أنه هو وحده دون سواه سبب كل هذا الشرود.. لم أكن أنوي أن أخبره بتلك البديهية يوما، فالبديهيات تُدرَك ولا تُخبَر!!
ارتفعت كفها في حركة لا إرادية فأمسكت أسفل صدرها الأيسر، كأنها تسند قلبها، إنها تشعر بوخز متعاقب.. لقد بات عليها أن تخبر محمود بالبديهيات الآن، لا بد أن يعرف كل الحقائق قبل أن .... ولم تستطع إتمام جملتها!!