..

هل كانت تلك البلاد لنا أم أتيناها صدفة؟ هل أخذناها من أحد عنوة؟
أقسم والدي عن جده الأكبر، الذي أقسم بدوره عن جده الأكبر، أنه كان يعمل مع هشام بن عبد الملك في قصره في بلدتنا، مقابل دانق في اليوم الواحد، وكان يركب على بغلته مسيرة ربع يوم، ومعه رأس بصل فحل وحبتا طماطم وخيارتان وقرن فلفل، ورغيف خبز طابون بالسمن البلدي من مزرعتنا، وعشر حبات زيتون من مزارع أقربائنا في نابلس، كان عليه أن يكون هناك بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس ليعمل حتى قبيل غروب الشمس بقليل.. لم يكن يعرف هذا المدعو إحباطا، لكن حصل لي شرف التعرف عليه وعمري حوالي خمس سنوات، عندما أرسلتني الوالدة –أطال الله في عمرها- إلى الفرن الذي كان يبعد عنا حوال خمسين مترا، وربما كان أكثر قليلا.. أذكر أيامها كنت ألبس شورتا فضفاضا، ولحقني بط الجار أبو سامي، كان الفرن خلف زاوية التقاء شارعنا بالشارع الذي فيه بيت أبو سامي.. فلو وضعت بيتنا على يسارك ومشيت ثلاثين مترا تصل للمثلث حيث بيت أبو سامي يبعد أيضا ثلاثين مترا عن المثلث في الزقاق الأيسر، لكن بطه ووزه مرابط على رأس الدخلة ويصرخ فور رؤيته أي دخيل كأنه كلب حراسة.. بقيت عشرون مترا على يمين المثلث وأصل الفرن، لكن لا أدري ما دار بخلده عندما رأى طفلا يلبس شورتا ويمشي ككرة تتدحرج على أرض خشنة، هرول كل البط باتجاه الكرة الكل يريد تسجيل هدف السبق.. وصار جيشا من البط والوز بلحظة.. ما شاء الله هل كانت هذه بوادر نكسة أو فكسة 67 ؟ الله أعلم.. لكن الأكيد أن الجيوش العربية كانت أجبن من البط وأكثر ضعفا وبيضا..
أسرعت الكرة بطريقة غريبة ودخلت الفرن قبل أن يتمكن منها البط... قلت أينه قال هاهو ولم يكمل حتى التصقت يداي بحواف صينية الألمنيوم أو التوتيا الصغيرة والتي فيها حبة باذنجان كبيرة سوداء شهية.. من الذي كان يشتهي المتبل؟ صرخت وصرخت، فقد صارت يداي مثل الباذنجانة بالضبط.. صرخت وبكيت بصوت عال.. وهرولت راجعا إلى البيت، كان البط ما يزال بالقرب ينتظر خروجي لكنه حينما سمع صوتي وصراخي صار يولول وولى هاربا.. كانت أمي تغسل الصحون في المدخل.. مداخل البيوت الريفية.. مساحتها أكبر من مساحة شقة فخمة وفيها مختلف الخضروات وبقدونس ونعنع.. كان سطل الماء البارد بجانب الوالدة التي هبت فور رؤيتي تسأل ماذا جرى ووضعت يديَّ في السطل.. خف الوجع مع الماء البارد ولا أدري بعدها ما حصل.. لكن الذي يعلمه الجميع أن البلاد راحت.. والأرض والبيت والفرن كذلك، وتقاسم الصهاينة الجبناء ذلك الوز الشجاع.. رحمه الله.. أبو سامي..
من يومها وأنا محبط لسبب واحد وهو أن والدي لم يضرب ذلك الفران الذي خبز وأنضج تلك الهزيمة..