إن اللغة التي يعبر بها الكاتب أو المفكر عن موقفه من هذا الحدث، لابد أن تكون على درجة عالية من الانضباط بمعايير الكتابة العلمية التي لا تترك مجالاً لتوظيفها خارج سياق الكاتب. لابد أن تكون الاستثناءات واضحة، ومقرونة بالتفاصيل التي تحدد رؤية الكاتب الخاصة، دون ترك مساحات من المعنى فارغة، يستطيع أن يملأها من يشاء بما يشاء

لايزال الغضب الإسلامي عارماً؛ جراء محاولة بعض المتطرفين الإساءة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تمظهر هذا الغضب الإسلامي في صور شتى، منها ما يأخذ منحى التعبير المجرد عن عاطفة صادقة الإيمان، ومنها ما يتجاوز ذلك إلى مناح عملية واقعية؛ تحاول استثمار الحدث في مسارات إيجابية لصالح الإسلام والمسلمين، ومنها ما ليس إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ من تجار العمل السياسي والاقتصادي المحترف.

وبما أن هذا الغضب الإسلامي العام، إيجابي في عمومه - بصرف النظر عن التفاصيل -؛ فإن هذه الإيجابية لا تعني عدم التوقف عند هذا الغضب؛ توقف القارئ لما تحمل هذه الموجة الغاضبة من دلالات وإشكالات، بل إن هذا الإلحاح على التساؤل والمساءلة، يمكن اعتباره جزءاً من مكونات هذا الغضب، ومن ملامح الإيجابية فيه، إذ هو غضب عام، يُسائل بعضه بعضا، ويتهم الغاضب غضبه بالدرجة التي يتهم بها (الآخر) مصدر الغضب.

حينما نتجاوز أنفسنا - بكوننا غاضبين - إلى التأمل الناقد في تمظهرات هذه الموجة الغاضبة؛ فإننا نلاحظ ما يلي:

1- غياب الاستراتيجية الواضحة التي تحدد الأهداف العملية من وراء هذه الموجة الغاضبة. فمع أن الباعث هو الانتصار لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -من الإساءة المتعمدة، فإن الانتصار هو مبرر وحافز، لكنه ليس هدفاً تتجه إليه فعاليات الغضب الإسلامي. الهدف الاستراتيجي لابد أن يكون واضحاً في أذهاننا ونحن نمارس حقنا في الاحتجاج والحوار والمقاضاة. وما لم يكن الهدف محدداً وواضحاً؛ فإن ما نقوم به لا يعدو كونه - في محصلته النهائية - تعبيراً ساذجاً عن حالة عاطفية، حالة سوف تتوارى بعد أن تأخذ مداها السيكولوجي؛ أيا كانت درجتها من الصدق والتسامي.

إننا نشاهد ونسمع على امتداد العالم الإسلامي الغاضب، بيانات الغضب التي تتفاوت في أفقها الذي تتغياه. المقاطعة - كأحد مظاهر الغضب - لم يستطع القائمون بها أن يرسموا لها حدوداً في الواقع. البعض يريد مجرد اعتذار واضح من الصحيفة، والبعض الآخر يريد اعتذاراً رسمياً من الحكومة الدنماركية، وآخرون لا يرضون بغير معاقبة المجرمين المباشرين عن طريق القضاء. بل إن هناك من يعلن أن الذنب فوق المغفرة، وأن العقاب (المقاطعة) سيستمر دون توقف؛ مهما كانت درجة الاعتذار!

ما هو الحد الأدنى الذي نقبل به كمسلمين؟ هذا ما لا يستطيع الغضب الإسلامي تحديده بوضوح، خاصة وأن المواجهة قد اتخذت شكل المقاطعة الاقتصادية التي هي بطبيعتها ذات منحى عملي، يبحث عن نتيجة ملموسة. ولا قيمة لهذه المقاطعة فيما لو تخاذل عنها كثير من القائمين بها؛ جراء رضاهم بحد أدنى من حدود الاعتذار، لا ترضى به بقية الأطياف.

لاشك أن هذا جزء من إشكالياتنا العامة في التفكير، والتي تتسم في الغالب بغياب الهدف أو غموضه، وأننا - في الغالب - لا نعرف ماذا نريد، حتى في قضايانا الكبرى والمصيرية.

إن هذه الحيرة والاضطراب في مثل هذا الحدث تجعل الآخر المقابل لا يتعاطى مع احتجاجاتنا على نحو جدي، بل يجد نفسه لا يعرف كيف يرضينا؛ فيما لو أراد إرضاءنا!، وأن ما يقدمه من اعتراف واعتذار و.... الخ، لا قيمة له عند بعضنا الغاضب. وبهذه العشوائية، نصبح وكأننا نخوض معركة مضنية؛ لأجل المعركة ذاتها، وكأن المعركة هي الوسيلة والهدف!

2- في سياق هذا الغضب الإسلامي ظهر نفسٌ جديد، نفس غير معهود في سياقات الخطاب الإسلامي المعاصر. هذا النفس الجديد الإنساني لم يكن غائباً تمام الغياب، ولكنه كان هامشياً - ومهمشاً -. لقد أصبح الخطاب الإسلامي يطرح - بإلحاح - على الآخر، مفردات التسامح واحترام الآخر، وأهمية مراعاة عقائد الآخرين. وهو في هذا يريد - من ناحية - الاحتجاج بها على الغربي المسيء، باعتباره من أبرز دعاتها على امتداد الحضارات البشرية، ومن ناحية أخرى، يريد أن يؤكد أن هذه المفردات محل احترام وإجلال في منظومته.

هذا المنحى الايجابي الذي هيمن على خطاب الاحتجاج والغضب الإسلامي أتى متأخراً، أي في غير أوانه. فمع ايجابية دخول هذه المفردات - بقوة - إلى الخطاب الإسلامي المعاصر، إلا أنها - للأسف - لم تظهر إلا عندما أصبحنا محتاجين إليها في تبرئة أنفسنا من الإرهاب، أو في إدانة الآخر بأنه ينتهكها في حقنا.

رائع أن نكون مشدودين إلى هكذا مفردات، مفردات متخمة بالإنساني. لكن، للأسف، نطرحها في الوقت الذي نطرح فيه - على يد الإرهابيين من أبنائنا - ذبح الأسرى من الوريد إلى الوريد على شاشات التلفاز، مقرونة بذكر الله والتكبير، وبخلفية من شهادة الإسلام بحيث تعطي هوية صارخة للمشهد الإجرامي. إننا نطرحها، في الوقت الذي تسير فيه المسيرات الغوغائية الهائجة إلى السفارات الأجنبية، فتشعل فيها النيران، وفي الوقت الذي تسير في الرعاع إلى الكنائس، فتدمرها على عبادها الأبرياء.

إننا نتكلم عن احترام الرسل جميعاً، وأننا نقدسهم دون تفريق، ونرفض أن يسيء إليهم أحد ولو بكلمة عابرة. هذه هي الروح العامة عند جميع المسلمين. لكن، هل ننكر، أو نستنكر، ما ورد في كتاب رائج عندنا، نوصي به أبناءنا، ككتاب (إغاثة اللهفان) مع أن مؤلفه - في معرض رده على النصارى، وتأكيده على بشرية المسيح - عليه السلام - يصف المسيح في قصيدة له، بأوصاف بلغت قمة البذاءة، كما في قوله (أقام هناك تسعاً من شهور.. البيتين. ج، ص350)، ولا استطيع كتابة البيتين هنا؛ لما فيهما من إسفاف وانحطاط، بل وانعدام في الذوق العام.

لا يمكن أن نكون صادقين - ونقنع الآخرين بصدقنا - في دعاوى احترام الآخر، ونحن نوصي أبناءنا بمثل هذه الكتب التي كتبت في عصور الصراع العقائدي، دون تنقية لها من هذا العفن الشائن. لن نكون مقنعين؛ إلا عندما نبدأ بغربلة تراثنا، وفحص مناهجنا، وجعل احترام الآخر سلوكاً عاماً لنا، وليس مجرد شعارات جوفاء، نجأر بها؛ للاستهلاك الإعلامي العابر.

من السهل أن نقول، ومن السهل أن نحتج بما نقول. ولكن من الصعب أن نقنع الآخرين بصدقنا فيما نقول؛ مادمنا نحتضن - وإلى هذه اللحظة - مراجع الكراهية والتفسيق والتبديع، ونؤسس عقائدياً - من خلالها - لكره الآخر من بني ديننا، فما بالك بالآخر من غيرنا، من غير المسلمين!

إننا نعلم أن كثيراً من التجمعات الإسلامية في الما وراء إسلامي - في أوروبا وأمريكا خاصة - قد تجاوزت هذه الشرنقات التصنيفية، وهي في سبيلها إلى التخلص من ما بقي من عقابيلها، وطرحها الفكري المتجاوز في الإسلاميات يشي بروح حضارية صاعدة. لكن، المعاقل التقليدية في البلاد الإسلامية، لازالت كما كانت قبل ألف سنة أو تزيد، تبحث المسائل نفسها، وتقترح الحلول ذاتها.

2- ظهر جلياً الاستخدام المسيس لهذا الغضب الإسلامي السامي. كثير من الأحزاب والتيارات، بل والدول، باتت تمسرحُ الحدث لمصالحها الخاصة، على حساب الفكرة العامة للغضب. لقد غدا الاحتجاج الغاضب يوجه - وفق شعارات خاصة - في هذا الحشد السياسي أو ذاك، والجماهير تساق إلى هذا التعبير أو ذاك، وهي تفعل؛ مادام أنها في انتظار ما تفعله من عقود ولا تجد.

تيارات المواجهة، أو التي اضطرتها الظروف الاقليمية إلى المواجهة، ليس من أولوياتها الانتصار لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكنها وجدت ما تجعله وقود عداوتها للآخر؛ لتفرض على الاخر خيارات ليست بالضرورة هي خيارات الغاضبين السذج، بل ربما كانت - في مؤداها النهائي - على الضد من آمال وتطلعات تلك الجماهير.

يخيل إليك - أحياناً - أن بعض أطياف الإسلاموية مبتهجة بالحدث؛ لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها. وإذا كنا لابد أن نغضب - مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد - فإننا لابد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها؛ كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية، بل تقف - من خلال مجمل مضامينها - على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدم والتحرر الإنساني.


إن اللغة التي يعبر بها الكاتب أو المفكر عن موقفه من هذا الحدث، لابد أن تكون على درجة عالية من الانضباط بمعايير الكتابة العلمية التي لا تترك مجالاً لتوظيفها خارج سياق الكاتب. لابد أن تكون الاستثناءات واضحة، ومقرونة بالتفاصيل التي تحدد رؤية الكاتب الخاصة، دون ترك مساحات من المعنى فارغة، يستطيع أن يملأها من يشاء بما يشاء.

4- ظهر هذا الحدث الصاخب، وكأنه موقف (يجب!) على الجميع المشاركة فيه، وخاصة من قبل ذوي الإسهام في الشأن العام. بدا، وكأن هناك من يريد أن يمارس عملية (امتحان) لإيمان كل كاتب وكل إعلامي وكل اقتصادي. من أعلن مشاركته في حملة الغضب فقد برأت ساحته، ومن لم يشارك فهو في دائرة الاتهام في موقفه من نبي الإسلام. وهذا موقف في غاية الخطورة؛ لأن المشاركة لابد أن تكون ذات جدوى عملية، وإلا فلا ضرورة لها. وهناك من يرى أن ما لديه لا يستحق التقديم؛ فلا يتقدم في مثل هذه الحال بشيء، فهل يتم وضعه - في هذه الحال - في دائرة الاتهام؟!، ومن هو المخول بممارسة هذا الدور البابوي؟!

أحد الأعزاء، ممن يقف مني موقف الأعراف بين إحسان الظن بي وإساءته، قال لي بعد مقال الخميس الماضي: لقد كنت متوقفاً؛ أنتظر، وبقلق كبير عليك، هل ستشارك في هذا الموضوع أم لا؟، أما وقد كتبت؛ فقد أبعدت سوء الظن عنك، ونفيت عنك الشُّبَه!!!

ومع تقديري العميق لمثل هذه العواطف؛ إلا أنني أرفض أن أضع إيماني على محك الامتحان من قبل أي أحد. إنني لست بحاجة إلى شهادة من أي أحد لي بالايمان، أو بما يضاد ذلك من تهم. هذه مسألة شخصية، لا تخص أحداً سواي. وعندما أكتب، فإنما أتوسل العلمية - قدر الإمكان - ولا أنتظر فيما اكتبه تزكية ايمانية من أي كهنوت كان، أيا كانت عباءته التي يرتديها. وهذا ما يجب أن يكون عليه الجميع في سياق هذا الابتزاز.

لكن، المشكلة في هذا السياق، أن هناك من يقلقه - بل ما يفزعه غاية الفزع - مثل هذا الامتحان العقائدي، الذي يمارس محاكمته التفتيشية القروسطية، ويخضع طائعاً لمثل هذا الابتزاز؛ فيسارع لإثبات إيمانه في مثل هذه المناسبات، خاصة عندما يسمع التساؤل الابتزازي التقليدي عن سبب صمته.

قد يمتحن الإنسان في أي شيء، في أخلاقه، في علميته، في مهاراته.. الخ، وقد يحتاج إلى شهادات الآخرين له في كل هذا. لكن، في مسألة الإيمان لا يمكن أن يكون محل تقييم الآخرين؛ لأن المسألة الإيمانية لا يطلع عليها إلا عالم الغيب والشهادة - سبحانه -.