عَبر الأثير..تسللت إلي سمعه ـ ووجدانه ـ برفق ونعومة كلمات أغنية "حليم" يا قلبي يا خالي...أغمض عينيه..عاد به خياله إلي أجمل لحظة سمع فيها تلك الكلمات لأول مرة..لحظةُُ مرت بعدها سنوات طوال..كلما تذكرها أحس بمذاق آخر للأيام..وطعم مختلف للحياة. ...يا لها من ذكريات!!..

يومها كان قلبه خاليا..لم يذق طعم الحب قط ..حتى التقى بها..تلك السمراء الهيفاء ذات العينين الزرقاوين...كان يعتقد أن العيون الملونة تصاحب البشرة الشقراء فقط..لهذا عشقها..لجمال عيونها وطيبة قلبها وخفة ظلها..

لم يعد قلبه خاليا..سري حبها في جسده وامتزجت به روحه..هام بها..خيل إليه من فرط حبه لها أن نبضات قلبه تحولت إلى حروف اسمها...شغلت قلبه..سكنته وتربعت...وتحكمت...جري حبها في جسده بدلا من دمه.

في مكان ظليل جميل جمعهما لقاء .وفي ظل الورد...والعبير يغطى المكان أخرج جهاز راديو صغير يحمله معه دوما..أدار مفتاحه فانبعث صوت كمان بشري: ليلي مراد "أنا قلبي خالي ولا انشغل بك؟؟؟

واصل الليل بالنهار وهو يحلم بعش صغير يجمعهما..كان حلمه أن يلتحق بكلية الطب كما وعدها..وعندما اقترب من تحقيق حلمه ظهر بينهما جدار عازل لم يستطيعا اجتيازه..لم يتمكن حبَهما من اختراق حاجز الفوارق الاجتماعية التى فصلت بينهما..افترقا مرغمين..ولكن حبها ظل ساكنا قلبه.

عاد من غربته الخارجية الي غربته الداخلية..ليعالج قلوب الناس وقلبه جريح..يردد مع "محرم فؤاد" باستمرار "يا حبيبي قول لي آخرة جرحي إيه؟؟" رغم زواجه وإنجابه طفلين إلا أن هناك ربعا في قلبه ظل حب السمراء يشغله..لم يستطع أن ينقّل فؤاده أنّي شاء...لأنه كان يؤمن بأن الحب الأول هو الحب الحقيقي..

تغير وجه مدينته ولم يتغير حبه لها...كان دائما يتذكرها...وبعدما تحول مكان آخر لقاءاتها الى ناد اجتماعي أصبح يتردد عليه كثيرا..يختار مقعده تحت الشجرة التى ظللتهما أوراقها وزهورها في ذات مكان اللقاء..يغمض عينيه ويسمع أغنياته المفضلة التى تذكّره بأجمل أيامه.

أحب كل الأغنيات التى تغنت بالقلب وانشغاله وجروحه وآلامه..حفظ كلماتها ..أصبح يرددها كلما خلا إلى نفسه..كانت كلمات أغنية ليلي مراد..يا طبيب القلب..بعيد حبيب القلب..تقطع نياط قلبه..وكلمات أغنية "محمد فوزي" تمللي ف قلبي يا حبيبي وأنا عايش بعيد عنك..تحذف ما فصل بينهما من سنوات طوال ليعيش ـ بخيالة ـ في لحظة اللقاء الأخير.

ذات مساء وهو جالس بين أفراد أسرته في ظل الورد وتحت الشجرة المحببة إليه التقطت أذنه ضحكة رقيقة لم يسمعها منذ سنوات طوال..وتسرب الى أنفه عطر أخاذ يعرفه جيدا..فهو الذي أهداه إلي سمرائه في آخر لقاءاتهما..التفت نحو مصدر الضحكة...تحجرت مقلتاه...كاد قلبه أن يتوقف عن النبض...ثم عاد ليدق فرحا...

هب من مقعده..اندفع نحوها..أيقن أنها السمراء..ذات العينين الزرقاوين..إنه يعرف كل ملامح وجهها الجميل..لم ينبس ببنت شفة..عاد إلى مقعده سعيداً متذكرا أن هناك ربعا خاليا في قلبه شغله حب قديم.

فكر أن يعرّفها بنفسه...تراجع.. بينما طفلاها يضعان رأسيهما علي ركبتيها وهي تربت عليهما في عطف وحنان وأبوهما يداعب بأصابع إحدى يديه شعر رأس أحدهما ويربت بالأخري علي ظهر الآخر.

نظر الي ابتسامة الرضا التى غطت وجوههم وجمعت شملهم..وطيور السعادة والصفاء التى تطير بخفة ورشاقة فوق رؤوسهم...أرجع البصر نحو زوجته وولديه فوجد الابتسامة ذاتها والطيور نفسها...أغمض عينيه في هدوء علي حلم جميل..ابتسم ابتسامة سعادة ورضا..أحس بتغير مريح في قلبه الجريح...لقد كانت المرة الأولي منذ سنوات طوال التى يخلو فيها قلبه من ربعه الخالي.