=================================================
تاهت نظراته القلقة المتوجسة وسبحت في الفضاء البعيد ، هناك تلوح في الأفق مراكب ذكرياته الحزينة وهي تغادر شطآنه .. أحس لأول مرة منذ زمان بعيد بالوحشة والفراغ ... لم يعد الحزن رفيق دربه ..
*************************************
في قاعة الدرس ، الصمت يفترس الوجوه البريئة ، وثمة شفاه تتحرك بصمت تحاول كسر الرتابة والضجر ... أوراق ملقاة بلا عناية تدوسها الأحذية ، قذارة تنتشر على السطح واللوح والنوافذ و... على الكرسي أيضاً ، حيث أسبل عينيه خلف نظارته السوداء ...
**************************************
أشعة الشمس تحرق الوجوه والشفاه ، والزحام يلقي أشرعة الضجر على الوجوه المتحجرة ... هناك ، بين ضجيج المحركات ، يتحرك لا يُرى إلا كفه يحمل زجاجة ماء بارد ...
**************************************
تدفعها أنامل أعجمية رقيقة ، وصرير العجلات يسجل حضوراً في ردهات المشفى ويوقظ أرتالاً تكدست على الممرات ... على بعد أمتار كان ينتظر عودتهم في ضجر ، وملء أذنيه صراخ الفنانة .. ريانة ...
*************************************
شكلها البيضاوي يغري بالزيارة ، تتقاسم مع النافذة جزءاً كبيراً من جدار الغرفة الرمادية ، اقتربت حذرة تعد خطواتها الصامتة ، وعلى فمها تتوه ابتسامة صفراء ... تطلعت .. لا شيء إلا مفرق يحمل شعرات بيضاء تتجاوز العشر ، وخد بدأت تغزوه الخطوط ...
*************************************
تجرأ فخطا بضع خطوات في الفناء وهو يسمع ضجيج أترابه ، شَخَص أمام الباب وأرسل نظراته في صمت إلى الطريق ، هناك كرة وسيقان تناوشها ، همَّ أن يتحرك ... أعاده صوت جهوري يمتلئ بالسعال والتبغ ..
*************************************
شمس حارقة في كبد السماء ، قزع من سحاب مبعثر في أقصى الأفق ، دخان متصاعد يلتقي مع زفرات وأنسام ملتهبة ، زحام واختناق ، ضجيج منبهات يختلط مع زعقات متقطعة .. هناك على مرأى البصر تجمهر صاخب وسيارة إسعاف فوق الرصيف ... على الأرض حذاء مدرسي وحقيبة ومِزَق من ربطة شعر ... وثغر منبَتّ تاهت فوقه ابتسامة بريئة ...
*************************************
تلاشى قلقه الذي لازمه لأيام ، وصل الطرد في الوقت الحرج .. مزق الغلاف فظهر لامعاً مقبضه المذهب وغمده المزركش ، في طرفه حروف أعجمية تحكي المنشأ ، اتجه إلى الرف وأزال الغبار ... وضعه بعناية ... وفي مكان بارز وضع البطاقة : " السيف العربي ... مع تحيات معرض التراث الأصيل " .
*************************************
وضع يده اليمنى على خده ، كد ذهنه المتهالك .. أمامه أوراق صفراء وحمراء وأقلام بألوان الطيف ... لم ينجز مقالة الأستاذ ، ولم يحبر قصيدة الأديب .. حاول الهروب ، سكب وابتلع ، ثم .. سكب وابتلع ... كسر الأقلام وتعالى النهيق ...
*************************************
انتفض وعلاه القلق ، اتجه إلى النافذة وأزال الستار ... ماء منهمر .. رعد قاصف وبرق خاطف .. لحظات .. عاد إلى كرسيه ليكمل روايته : " خد وقد " .
*************************************
النداء الأخير للرحلة .. حقائب وقُبل مودعة ، وأصوات ناعمة أو خشنة لم يعد يميز .. جر حقيبته السوداء وفي يده اليسرى يحمل قرار نفيه إلى الغربة .. لم يسمع مجاملاً يهمس : " إلى اللقاء " .


====================================
كتبها : وائل العريني 10/11