ابن آدم ! تعهـدت أن تكون إنساناً .. فاحذر أن تعـود بشراً !



متى تـُستخـدم .. كلمات : بشرية – آدمية - إنسـانية .!

وهل تؤدي كل كلمة من هذه الكلمات الثلاث .. معنى الكلمتين الأخريين .!


أشار أحـد علمائنا الأفاضل – ذات مـرة – ولـو بإيجـاز .. إلى أن هذه الكلمات تُشير إلى مـراحـل خلـق الإنسان ...

قال تعالى ..

{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ } السجدة7 .


وقد قمتُ بهذا البحث والتحليل الموجز حول هذا الموضوع، فوجدتُ ..

أن كلمة (بَشَر )هي بالأساس– وصفٌ دقيقٌ للمـرحلة الابتدائية-الأولية- من مراحل خلق الإنسان.



فكلمة بشر مشتقـّة من البَشَرَةِ، وهي الطبقة الخارجية المنظـورة – والمغطاة في ذات الوقت- من جسم الإنسان. وهي الطبقة التي يـُحافظ الإنسان على التستر عليها ومواراتها عن الآخرين – وكأنه بذلك يستـر عيـباً فيه – لكي لا يراه الآخـرون ..، وكأن الآخـرين لا يعلمون به، أو كأنهم لا يحملون ذات العيب – إذا اتفقنا على أنه عيب.



والبشرة في جسم الإنسان - مُـعـدّة ومُـصممـة لمقاومة ومواجهة الظروف الخارجية، .. أي أن وظيفتها هي حمـاية الأجزاء الداخلية من جسم الإنسان.

ولكن الإنسان اعتبرها هي أيضاً من الأجـزاء الداخلية..، ولذلك فإن - خلف هذه التغطية، وهذا التحفـّظ على البشـرة – تـوجـد أسرارٌ عجيبة - سهلة ربما – وربما استحال فهمها .

فكأن الإنسان يحتفظ بسـرٍ، ويفتخـر بصونه لذاك السـر– وهو يعلم أنه ليس سـراً.

وكأنه هـروبٌ .. من أمـرٍ يـُذكّـره بمرحلته السابقة - البشرية - ربما لحظة ولادته، أو زلاته الجنسية، أو معصية أبينا آدم التي أدت إلى ظهور عورته- هو وزوجه ) ..

فكأنه هروبٌ من كل ما يُذكّره بتلك اللحظات التي ترفــّع عنها .. والتي يتنكّـر لها، ولا يذكرها باعترافٍ وتمعّن إلا في خلوته.


ففي حين أننا ننظـر إلى الحيوانات فنـراها جميلة رغـم أنها عـارية، ولا نخجل من اصطحابها، والتصوير بجانبها ..

إلا أننا لا نتقبل رؤية الإنسان عارياً (بشراً ) ، ولا يقبـل هـو ذلك.


ولعلنا نلاحظ أن أول –أو أكثـر ما يفعله الإنسان حين يفقد عقله –هو- خلع ملابسه ( أي إظهـار بشرته ، .. وكأن الإنسان أو الآدمي .. يعـود بشراً بفقدانه لعقله ).


ونلاحظ أنه حتى أولئك الذين يرتدون من الملابس ما يُظهر شيئاً من بشرتهم، فإنهم إنما يفعلون ذلك بدواعي ليست نبيلة .. فهي إما للإغراء، أو للتفاخر .. أو بسبب انحلالٍ أخلاقي - خلل ثقافي.

ونلاحظ أنهم إذا ما تم إبلاغهم بعيبٍ في ملابسهم – يُظهر بشرتهم – دون علمهم، فإنهم يُسارعون لإصلاحه وإخفائها .


وكل ما يتعلق بالبشرة – وهو كثير- فإنه يدخل ضمن قائمة ما لا نرغب أن يراه فينا الآخرون- لأنه معيب.

ومن اسم البشر اشتقت كلمة المباشرة ( عُـذراً .. مباشرة الأزواج ) .. بمعنى أنه لا حائل بين البشرة والبشرة.

وكـذلك .. كلمـة البث المباشـر .. الذي يعني أن الخطـأ والمفاجأة – مُتوقعة، وأن سترها غير ممكن.



ولو تتبعنا صفة- بشر- في القرآن الكريم - لوجدنا أنها- كلما وردت بصورة اعتيادية- فإنها تحط وتنتقص من قـدر الإنسان .. فمثلاً – نرى النسوة اللاتي استكثرن على البشر - جمال- سيدنا يوسف عليه السلام ..


قال تعالى .. ( فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم )- يوسف\ 31)

.. فقد كان حُكْمُهُـن عليه من خلال ما بدا لهن من بشرته .. فاستكثرن جماله على البشر الذي يعرفن.!


وكذلك نجد أن الأقوام الذين استكثروا على رسلهم شرف الرسالة .. فقال تعالى فيهم ..

( ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد .) - التغابن \6)

فلو لم يرَ القوم بشـرة رُسلهم - لما استكثروا عليهم شرف الرسالة. فكأنما عافوهم لكونهم بشراً.


ولو وضعنا كلمة بشر المجـرّدة – تحت مجهـر العقل – فسنجد أنها تعني - ذلك الكائن الحي الذي يشتمل على جميع

عيوب ونقائص الحيوانات، .. في حين أنه لا يتصف بأي ميزة من مزاياها .. تقريباً.

فحتى مُخلفات وفضلات الحيوانات يُستفاد منها - ناهيك عن لحمها ولبنها وصوفها ...الخ .

ولا نتضرر من الحيوانات إلا بقـدر جهلنا بها، أو بإرادتنا ..

بينما نتضرر من البشر دون إرادتنا، وبغض النظر عن جهلنا أو معرفتنا به، وحتى عند إحساننا له ..،

ولا نستفيد من البشـر إلا عمله وعلمه إذا كان صالحاً - وحينذاك لا يقال عنه بشر.!


فالبشر هي المرحلة التي كان خلالها الإنسان ضعيفاً ومجرداً من العقل والمعرفة ..

وهي المرحلة التي تساءلت واستهجنت فيها الملائكة استخلافه في الأرض، لعلمهم بأن كل صفاته قبيحة.

ولم تكن الملائكة على علم بما يُخبئه - الخالق عز وجل- من أسرار ومزايا ستغيّر من واقع هذا المخلوق .. في مراحله اللاحقة – والتي تؤهله للخلافة في الأرض، ودخول الجنة .. إن هو- أحسن استخدامها.


وهنا تأتي مرحلة الآدمية .. وهي المرحلة التي كـرّم الله سبحانه وتعالى – فيها - آدم بالعقل والمعرفة،

حيث تفـوّق على الملائكة - بأن أنبأهم بأسمائهم – بإذن الله – وقال حينها الحق - لملائكته ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون ( يقصـد عن البشر- هنا).


وكما هـو معلومٌ -أو مُتـفـق عليه - فإن اسم آدم مُشتق من أديم الأرض (أي مكونات قشرة الأرض ).

والآدمية هي المرحلة التي استكبر خلالها إبليس عن أمـر ربه – وأبى السجود – لآدم عليه السلام ...

حيث إن إبليس– قـد ركن للتجريد والتجسيد – هنا، فقال كيف يسجد من خـُلق من نار– لمن– خـُلق من تراب ...

ولم يفعل ما ينبغي عليه فعله .. وهـو طاعة أمـر الله دون تجـريد للأمـور من أسرارها، ودون تجسيد للأمـر في شخص آدم وظـاهـره المنظور.



وهي ذاتها المـرحلة التي عصى فيها آدم ربه – غـيّـاً ونسيانا .. فأكل هو وزوجه حواء \عليهما السلام - من الشجرة التي نهاهما الله تعالى - عنها .. فبدت لهما بسبب ذلك - سوءاتهما ..( أي أنهما عادا إلى مرحلة البشـر .. مرحلة الجسد المجـرد من حكمة العقل وجماله، ومن سمو نفخة الروح الإلهية).


وكان ذلك بمثابة درس وتجربة لهذا المخلوق - قبل أن يبدأ رسالته - بخلافته وحياته على الأرض .. ليعرف من خلالها مؤهلات واستحقاقات دخـول الجنة، .. وهي الطاعة والخضوع الكامل لأوامـر الله، وعـدم نسيان ميثاق الأمانة.

وليعلم أن العصيان لا يتوافق مع قوانين الحياة في الجنة، وبذلك وجب على الإنسان أن يحيا في الدنيا حياة المُسـيّر – رغم أنه مُـخـيـّر .. ليكون مـؤهـلاً ويستحق بذلك حياة الجنة الأبـدية ...


فالآدمية .. هي مرحلة الاختيار بين الصواب والخطـأ- بالنسبة للإنسان، .. فهـو مهيأ لهـذا وذاك.

وهي مرحلة استثمار العقل،.. ففيها يعلم الإنسان واجباته – ويعلم ما يترتب على إخفاقه في أدائها.


ولذلك فإن .. كلمة ( آدم ) .. كلما وردت في القـرآن الكريم – نجـدها إما مقرونة بتحـذير الله له.. ، أو بتذكيره بتكريم الله له، أو بالأمـر والنهي ، أو بذكـر ظلمه وأنانيته ...


قال تعالى (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) .. البقرة\ 35 .

وقال تعالى ..( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ) .. المائدة \ 27.

وقال تعالى .. (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) .. الأعـراف \ 26.

ولعل الآية الأخيـرة هنا .. تـُوضـح بشكل جلي ومباشـر .. أن اللباس المادي - ورغم أهميته في إخفاء سوأة الآدمي – إلا أنه لا يكفي، ولا يحجب كل العيوب، فإذا حجب – فهو يحجب عـورة الآدمي عن أخيه الآدمي .. الذي يحمل ويفعل العيوب ذاتها ..

ولكن هذا اللباس المادي لا يحجب عيوب الآدمي التي أمره ربه بإخفائها - ليكون إنساناً جديراً بدخول الجنة .. ، ولذلك فقد قال عز وجل ..

( ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون .) ..

.. فلباس التقوى إذن – هـو الذي يستر عيوب الآدمي التي أمـره الله بمواراتها، وعـدم إظهارها ..

وعندما تختفي عيوب الآدمي تلك .. فإنه ينتقل إلى مـرحلة الإنسانية ..


فمـرحلة الإنسانية تعني بلوغ ابن آدم مرحلة حمل الأمانة وجدارته بها .. وسعيه باتجاه الكمال والسمو بدافع من المعرفة - النابعة من نفخة الروح الإلهية فيه..



ولذلك فنحن نلاحظ أن كلمة إنسان، وإنسانية .. تأتي دائماً مع كل أمـر يتعلق بالكرامة والحرية والعـزة والحقوق المعنوية، وكل ما يتعلق بالشرف والأخلاق والرفعة والذوق والـرُقِي والعلم والإحساس والمبادئ والمشاعـر النبيلة.



فالإنسانية .. هي بلوغ الإنسان مـرحلة من الـرُقِي الروحي والوجداني في التكامل والتوفيق بين الاحتياجات المادية والروحية.




ففي مـرحلة الإنسانية .. ينبذ الإنسان ويشمئز ويحتقـر- كل أمـرٍ يُـسيء إلى الحب والخير والصواب والعدل والسلام والتسامح والمساواة والعطف والرفق والنبل والعفة والطهارة.


فالإنسان الذي يعيش مرحلة الإنسانية بوجدانه وعقله .. نـجـده يـخجـل ويكاد يموت كمـداً وألمـاً .. من كل ما يجـرح كبرياءه وكرامته .. حتى لو كان ذلك الشيء .. يسيراً واعتيادياً وخـارجـاً عن إرادته.


ومـرحلة الإنسانية .. هي الأرضية المناسبة للإيمان الذي يُـرضي الله عـز وجل، وهي المرحلة التي يكون خلالها الإنسان مسئولاً - مُدركاً مُتعمداً- لما يقول ويفعل ..

قال تعالى ..

{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً } الإسراء13 .

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } الكهف54 .

{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } الأحزاب72 .


ولعل مدلول هذه التعريفات والتحليلات .. يتضح أكثـر ويجـد صـداه .. في نفوسنا ..

عند مقارنتهـا .. بما اهتدت إليه الفطرة الإنسانية من توحيد لاستخدامات هذه الكلمات ...


فنجـد .. أن كلمة بشرية .. إنما تـُستخدم كلما تعلق الأمـر بالحقوق الأساسية الأولية - للإنسان، وكلما تعلـّق الأمـر بمقارنته بغيره من المخلوقات، وكلما تعلـّق الأمـر بجذور الإنسان، وكلما كان الأمـر يتعلـّق بالناس جميعاً من حيث البقاء والفناء.


ونجـد .. أن كلمة آدمية .. إنما تـُستخـدم .. كلما تعلـّق الأمـر بتصرفات الإنسان وحاجياته الحياتية، وعند الحث على الحكمة، والتذكير بالعقـل، والمساواة بين الناس، والنهي عن التكبر .. كأن نقول .. كلنا لآدم وآدم من تراب.


ونـجـد .. أن كلمة إنسانية .. إنمـا تـُستخدم .. كلما تعلـّق الأمـر بالحقوق المعنوية، والتطـوّر والتحضـّر والتقـدّم والأخلاق والمُـثـُل والقِـيـّم النبيلة.


والله تعالى أعلم بأسرار خلقه منهم ..


... مع تحياتي ...