ثائر بين أروقة المخيمبقلميحين المغيب، كان وهج الأفق الأحمر يلقي بظلال ساكنة على بيوت المخيم الصغيرة المتلاصقة. كانت الشمس تحجبها كثافة الغيوم المتراكبة ،قد عصبت عصابة الرحيل فخبا بريقها ،و تلاشت خيوطها الذهبية.بهدوء و خشوع توارت شيئا فشيئا تاركة أرضا و سماء في عناق سرمدي مديد. بين هذا و ذاك .. كان جبل رابض توشح بالعنفوان،يضرب بأوتاده عميقا كأنما يشمخ متحديا تلك الريح العاصفة التي تنذر بليلة شتوية قارصة البرودة.
"شيماء ،أدخلي الملابس قبل أن يبللها المطر ثانية".
-"حاضر أمي،سأفعل حالا" أجابت شيماء و أسرعت تستر رأسها، ثم خرجت لتجمع الملابس التي نشرتها صباحا خارج البيت لتجففها شمس الشتاء الباردة،ثم دخلت.
شيماء فتاة صغيرة تبلغ من العمر اثني عشر عاما، قهرتها حياة الفقر المدقع فسلبت طفولتها و جعلت منها ربة بيت صغيرة تعين أمها على ظروف الحياة الصعبة.تآمرت عليها العادات و التقاليد البالية فحرمتها حق التعليم شأنها شأن كل فتيات المخيم
-"شيماء، هل رأيت أحمد في الخارج؟" ،و قبل أن تتم الأم كلماتها ،أطل برأسه من الباب مبتسما :"السلام عليكم ... لقد عدت".
-"و عليكم السلام ،أين كنت حتى هذا الوقت يا ولد؟ هيا ادخل بسرعة".أحمد ، الطفل ذي الأعوام الستة كان الابن الوحيد لهذه الأسرة الصغيرة.يحمل بين أضلعه قلبا حنونا،طيبا،مخلصا لوطنه و محبا للحياة.صقلته المحنة فعلمته أن يكون جلدا،راسخا،و صبورا حتى و إن سرقته الحياة أحيانا فتجده يلهو هنا و يلعب هناك.
استشعر منذ صغره ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه بعد أن غيبت زنازين الظلم السوداء والده منذ عامين تقريبا. كان ذلك بعد مطاردة دامت ما يربو عن عشرة أعوام أمضاها والده متخفيا، و متنقلا بين نفق أرضي أو كهف جبلي يدير العمليات ويوجه المقاومين ؛حتى جاء اليوم الذي أتى فيه متخفيا لزيارة أسرته و رصدته عيون الخيانة فأبلغت عنه.في ظرف دقائق كان المخيم محاصرا، و مكبرات الصوت تصم الآذان منادية بالاستسلام ،و دارت بين رجال المقاومة و الجنود معركة طويلة افتعلها المقاومون للتغطية عليه و تمكينه من الفرار ،لكن المحاولة باءت بالفشل و اعتقل والده في تلك الليلة.بهدوء مريب دخل أحمد و تسمر مكانه قرب الباب يداعب أصابعه فنظرت إليه والدته و قالت:" قلت لك ادخل هيا".تلعثم قليلا ثم قال: "لكن .. لكن ثيابي متسخة ،و كذلك يداي و رجلاي" ، و ابتسم مكملا:"لقد كنت ألعب في الطين مع الأولاد في الزقاق، آه لو ترين يا أمي كيف لعبنا و استمتعنا" ،و تنهد بمرح ثم تابع يضحك و يحكي لأخته عن مغامراته،و كيف كان يكور الطين و يلقيه على الأولاد دون أن يتنبه لنظرات أمه الغاضبة المتوعدة،فاقتربت منه و هو يتكلم تارة ،و يضحك تارة ،و يحاكي تارة أخرى ؛فجذبت أذنه بقوة و صرخت :"كم مرة قلت لك لا تلعب بالطين، لقد تشققت يداي و أنا أغسل ثوبك كل يوم و أنت لا تبالي ،من أين سآتي لك بثياب نظيفة،ألا تعلم حالنا أيها الغبي"أدمعت عينا الصغير و قال بتأثر بالغ : "أنا آسف يا أمي، لن أكررها ، أعدك ،هات يدك أقبلها" و انكب يقبل يديها ؛فتبسمت بعذوبة و قالت: "أحبك صغيري، لا تبكِ يا رجلي الصغير" ،و نظرت إلى شقيقته قائلة:"خذيه و بدلي ثيابه و اغسلي قدميه و رجليه ، ثم تعالا لنرى كيف سنتدبر أمر هذه الليلة فالسماء تنذر بمطر منهمر".
في تلك الليلة، افترشت الأم و أطفالها ركنا منزويا في أقصى الغرفة الضيقة ، حيث احتضنت شيماء شقيقها الصغير بين جنبيها ،و نامت أمهم إلى جوارهم تضم إليها طفلتها الصغيرة لترضعها و تدفئها.تمر ساعات الليل بطيئة،و تبكي السماء دمعها ،تبرق و ترعد ،زخات المطر ترتطم بألواح السقف كأنما تعزف لحن الغضب صاخبا و مدويا ،يؤرق المآقي و يقض مضاجع النيام ،لكنهم ألفوه بل و أحبوه رغم قسوته و جبروته غير مكترث لرقيق الثياب التي يلبسون ،أو للأوعية التي انتشرت في البيت الضيق لتتلقى ما يتسرب من الشقوق في أعلى الغرفة من مطر متهاطل. البيوت في المخيمات صغيرة جدا ،لا تتعدى كونها غرفة واحدة صغيرة،يقتطع جزء منها لما قد يسمى تجاوزا "مطبخا"،و ركن ضيق لقضاء الحاجات .جدرانها خشنة متشققة، و الأسقف ألواح معدنية لا تقي مطرا و لا بردا .هنا عاش آلاف ،و لا زال آلاف يعيشون .يُتبع بإذن الله