كش ملك
قصة قصيرة

لم أتوقع ان يتعرف علي النادل بهذه السهولة فلم تطأ قدماي مقهى " الباشاوات " في شارع البحر منذ عشرات السنين حيث كانت جلسة السمر اليومية تكلفنا بضع تعريفات او ربما قروش على سبيل التبذير!.استقبلني النادل بترحاب شديد وقد حوله الشيب إلى جلد يغطي عظاما نحيفة ، سألني عن سر عودتي فاخبرته بأني أنتظر صديق مراهقتي – الذي يعرفه جيدا – فقد عاد من الخارج بعد عقود قضاها هناك وكان هذا المقهى هو المكان الوحيد الذي لا يزال يعرفه كلانا في هذا العالم.

أقبل " جون " يرتدي معطفا يرتدي يحاكي ظلمة ليل يناير وقبعة سوداء طويلة ، بعد عناق جلس على الكرسي المقابل وخلع نظارته السوداء وقبعته الغريبة التي كانت تخفي تحتها طاقية بيضاء كطبق صغير تستند إلى مؤخرة رأسه ، استرعى انتباهي باطن قبعته السوداء فقد كانت تمتلئ بالأشكال الهندسية المتداخلة الملونة يتخللها أهلة ونجوم ونسور وأشجار أرز!! سألته بتلقائية بلهاء : " هل تعلمت السحر في الغرب يا جون ؟! " وسرعان ما أجابني بابتسامة خبيثة : " الغرب ملئ بالسحر يا صديقي! ".أحضر النادل أكواب الشاي وطفاية السجائر ورقعة شطرنج قديمة قد تآكلت قطعها الخشبية وتناول كل منا قطعه لنبدأ اللعب.

كانت هذه عادتنا منذ عشرات السنين نتجاذب أطراف الحديث أمام رقعة الشطرنج في موقعنا الحدودي المتميز – الذي يحبه جون – على باب المقهى نرصد ما يحدث بالداخل والخارج معا ، كان دور الشطرنج ربما يستغرق نصف يوم وما بين الحركة والاخرة حديث مطول أو صلاة فرض ، بالطبع كنت أقوم لأصلي وحدي فقد كان جون - كما يقول عن نفسه – عديم الملة!! ، كنت أعود بعد الصلاة لأجد بعض قطع الشطرنج قد تحركت من مواقعها..أنظر إليه فيندفع يقسم بشرفه وشرف عائلته أنه لم يغير شيئا ، أضط لإكمال الدور الفاسد وأخرج كالعادة مهزوما.لن ادعي أن خداعه كان سبب هزيمتي فحسب فقد كان أمهر مني وكانت خططه – كما يقول عنها – " متخرش المية !! " ، اعتمد في أوقات طويلة على خطة نابليون الشهيرة التي تستند إلى التحرك المفاجئ السريع للوزير في حماية الملك لاختراق صفوفي مستغلا ثغرة أتغافل عن حمايتها رغم هزيمتي منها مرارا وتكرارا ، كنت اتعجب من مخاطرته بالملك والوزير وكان يصر على أنها ليست مخاطرة وإنما حركات مدروسة ، أقابل كلماته بابتسامة ساخرة:"انت بتلعب حظ..ماشية معاك حلاوة..".لم تكن خطة نابليون هي الوحيدة فقد كان يتبع خططا اخرى قد تطيل أمد المعركة قليلا تعتمد معظمها على استدراجي لأهزم نفسي ، أذكر أني كنت احيط الملك بالكثير من القطع التي لم تكن تغني عنه شيئا بل كانت تعطله عن الهروب وقت الخطر.

حاولت ترك الذكريات قليلا والتركيز في دور الشطرنج بينما انبرى جون يتحدث باختصار عن رحلته في بلاد الغرب وعمله في الأبحاث التاريخية وتأليف الكتب ، قاطعته : " ألا أجد لديك فرصة عمل لابني في بلاد الغرب؟ ابني حصل على مجموع تسعين بالمائة في الثانوية العامة ودخل كلية التجارة ، تصور يا صديقي أنه لم يجد مكانا في كلية الطب!! ، تخرج ابني منذ أربع سنوات ولم يؤد الخدمة العسكرية فقد حصل على تأجيل لثلاث سنوات ثم إعفاء ، عندنا الآن وفرة في عدد المجندين بالقوات المسلحة لدرجة أنهم يعملون في مشاريع بناء الطرق والصرف الصحي وابني المسكين لا يجد عملا ، يخرج ظهرا يتسكع مع أصدقائه..انهم يجلسون في أمكان لا تختلف عن هنا كثيرا بها سجائر مستوردة وشيشة مذهبة وتلفاز عملاق مسطح يخرج من الحائط ولا يظهر منه سوى شاشة ، عرضت عليه أن أزوجه لكنه يريد شقة ناحية المحافظة يتكلف ايجارها راتبي طوال الأربعين عاما الماضية! ، هيييه يا صديقي..لا تتصور كم تتألم زوجتي من أجله حتى أصيبت بالضغط والسكر واستصدرت لها قرارا للعلاج على نفقة الدولة ولكن الأدوية رديئة وحالتها تسوء...".

عدت إلى قطع الشطرنج لأجد جون قد استغل اندفاعي في الحديث وفعل شيئا ما بالرقعة ، ابتسم قائلا: " تلك خطة جديدة يا صديقي..تلك العساكر الصغيرة قليلة الحيلة ربما صنعت منها جدارا أطلق من خلفه باقي قطعي..".نظراتي إلى الشطرنج حملت مقدار همي في الحياة لامبالاة..صرفتها إلى نشرة الاخبار في التلفاز باهت الألوان تذيع المشكلة الكبرى للنادي البطل مع اتحاد الكرة وحفريات جديدة تحت المسجد الأقصى وانتعاش مؤشر البورصة المصرية ، " لماذا لا تلعب يا صديقي؟ " نظرت فإذا هو يولي فيله شطر ملكي من خلف جدار عساكره ، وضعت يدي على خدي وتابعت: " لم تقل لي يا صديقي..ألا أجد فرصة عمل لابني عندكم في بلاد الغرب؟" ، لم يرد علي وإنما ابتسم ساخرا : " كش ملك " ، لم ترقني طريقته فقررت أن أحرك الحصان حركة استعراضية وأتجاهل ذلك المتغطرس ، وضع إبهامه على ملكي وعيناه تبرقان بالظفر: "مات الملك !!".انتفضت متلفتا حولي وكممت فمه بكلتا يدي هامسا: " يبدو أن طول مكثك في بلاد الغرب قد أفسد اخلاقك..!!".سحقت كل قطع الشطرنج العتيقة تحت كعب حذائي تاركا الملك منتصبا فوق رأس صديقي..ومضيت..



د.إبراهيم الحسيني
21 – 3 - 2010