لعلها الخامسة والنصف مساءً أو أكثر بقليل عندما رأته واقفاً أمامها، توقفت عن المسير وكأنما عجلة الزمن قد توقفت. كأنما كل شيء حولها قد جمد، عربة طفلتها التي تدفعها، أوراق الشجر المتساقطة، أرجوحة الأطفال القريبة، طيور النورس التي تحلق بكثافة هناك. هي بالتأكيد لا تتمنى أن يراها الآن وفي هذا المكان. تمنت أن تعاود عقارب ساعتها الدوران عكس مجراها لتعود بالزمن إلى الوراء، وتتوارى كفراشة تتجنب الوقوع في شِراك عنكبوت. هي لا تدري هل تذهب لتحيته أم تتجنب ذلك. أسبوع كامل مضى منذ عودته.

- مرحباً ( نوال ).

- أهلاً ( أحمد )، قالتها وهي تتحاشى النظر لوجهه.

قبل ثماني سنوات، تعوّد أن يراها في نفس المكان عندما كانوا يتنزهون عائلياً، لذا توقع أن يراها اليوم هنا. إن له ذكريات جميلة مع قريبته الواقفة أمامه، كما مع شجرة الصفصاف تلك عندما اضطر أن يختفي وينام بجوارها في العراء ليلاً. هو يعرف ما تكن له هذه الفتاة من ودٍ ومن أجل ذلك ما كان يتوقع أن تسير الأمور بهذا الشكل. هما قلبان منصهران يضخ ماؤهما في مجرى واحد وينساب شلالاً يتناثر فيضه في أتربة الشوق، لتتفتح من نباتاته أزهار الحب. يتذكر أنها قالت له ذات مرة إن عفاريت الإنس والجن لا يمكنها التفريق بين قلبيهما. قرب وجهه ناحية الطفلة التي بدورها أخذت تمسك بأطراف لحيته بيديها الغضتين وهي تفحص برجليها الصغيرتين متهللة الثغر، تناولها بين يديه، زرع قبلتين على خديها.

- يا لها من طفلة جميلة، إنها تشبهكِ تماماً.

تحركت شفتاها كأنما أرادتا أن تنطق ببعض الكلمات وسرعان ما أطبقتهما.
منذ أن وصله خبر زواجها شاخ قلبه كما يشيخ رؤساء بعض الدول العربية وهم فوق كراسيهم، لا يفرقهم عنها إلا الموت، أو ثورة شعبية عارمة كما حدث لبعضهم.
سألها وهما يسيران جنباً إلى جنب:

- هل أنتِ سعيدة معه ؟

صمتت قليلاً وهي موجهة بصرها للأسفل نحو أوراق الأشجار الملقاة على الأرض قبل أن تجيب.

- أحياناً تجبرك الظروف والمنطق أن تختار عكس ما يريده قلبك. خمس سنوات وبضعة أشهر من الانتظار، الصراع، المقاومة، ومجابهة الضغوطات، منذ ابتعادك وعصافير الشوق تعزف فيّ لحن الفراق. خشيت أن أجلس مطولاً في محطة الانتظار، وتلفني شرنقة العنوسة ويفوتني قطار الزواج.

هو ذا الآن يسير مع فتاة يشم من جسدها رائحة الكفاح، كما رائحة العطر التي تفوح من عباءتها، ويسمع من روحها رنين الصبر، كما كان يميز رنين صوتها من بين أصوات الفتيات المتجمهرات، وكيف لجبل الصمود هذا أن يذوب وتختفي معالمه تحت طائلة لهيب الوقت والإلحاح ؟

راحت تتأمله جيداً لأول مرة عندما وصلا عند حافة البحر، ومنذ أن دار بينهما الحوار وهو يسرد لها بعض الأحداث التي صاحبته. كان ينظر إلى البحر، وصوت ارتطام الأمواج بالصخور يصل إلى مسامعهما. بدا لها بأنه وسيم كما كان، حتى إن اللحية الكثيفة والتي اعتاد أن يحلقها باستمرار وكذلك آثار الكدمة أعلى الجبين، وبعض الشعرات البيض التي بدأت تزحف لفوديه لم تستطع كلها إخفاء وسامته. حولت نظرها عنه عندما مال بوجهه ناحيتها، ثم قالت بعد صمت وجيز:

- حمداً لله على سلامتكم، كدنا نفقد الأمل في خروجكم.

هو نفسه لم يكن يتوقع خروجهم على الإطلاق، لولا التدخل الدولي ووضع أحد الشروط المبدئية المفضية إلى تبييض السجون من المعتقلين السياسيين، من أجل الدخول في حوار مع فصائل المعارضة، حوار يراد به أن يكون جدياً ومن شأنه أن يخرج البلاد من أزمتها السياسية الأمنية الخانقة.

قال:

- تعرفين لا أثق بتاتاً بهذا التدخل الدولي الذي تفوح من أعطافه رائحة المصالح المتبادلة، كما هي رائحة السموم التي كانت تغرق بها بيوتات القرية ؟

- ولكنه أمر لا بد من اللجوء إليه بعد كل انتفاضة، الحوار هو السبيل الأنجع لخروج البلاد من نفقها المظلم.

- أعلم ذلك، ولكن ألا تعتقدين أن الحل الذي سيأتي من بعده إن كان لا يلبي طموح الشعب، فإن بركان الصمت الراكد يمكن أن ينفجر من جديد ويطلق حممه بكل اتجاه ؟

- أعرف ذلك، أولا تظن أن عدم الاتفاق على سقف المطالب بين فصائل المعارضة من شأنه أن يؤخر الحل، وقد يعيدكم من جديد لغياهب السجون ؟

- إن من يقتلع الصمت ويحيله إلى اعترافات باطلة دون محاسبة، يمكنه أن يجمعنا في الغرف المظلمة مرة أخرى في غضون دقائق. ولكن لا يمكن لهذا الغول أن يسلبنا إرادتنا وعزيمتنا مهما استخدم في سبيل ذلك من خطط وأساليب.

قال ذلك وهو يرمقها من طرفي منظاره منحنية تعيد فوق طفلتها ما أزاحه الهواء من غطاء، ولاح له في أثناء ذلك من عينيها النجلاوتين رموشها التي تكاد تلامس وجنتيها.

بدأت النجوم تتلألأ في صفحة السماء وكأنها بثور على جبين القدر، والشمس قد سقطت خلف النخيل والأشجار العالية ولم يبقَ منها إلا ضوؤها الخافت، وبعض العائلات بدأت تلملم حاجياتها وتغادر، وكذلك بائعو الفشار والذرة.

قالت له بعدما همّا في مغادرة المكان:

- ما الذي تنوي أن تفعله ؟

- لم يعد لدي شيء أخسره، سنواصل المسير، وسنسعى جاهدين للوصول إلى الهدف المنشود ما استطعنا إليه من سبيل.

اتجهت هي بعربة طفلتها تدفعها ناحية اتجاه مغيب الشمس، كأنما يجرفها تيار القدر، بينما هو سلك الاتجاه المعاكس، أملاً في بزوغ فجرٍ جديد.