استيقظ أخيراً من نومه على قرع أذنيه برنين هاتفه الجوال، ونقرات الباب المصحوبة بصوت والده العجوز، يطلبه في الحال.

- نعم يا أبتاه، قالها متثائبا.

- انهض يا بني، صديقك ينتظرك في الخارج منذ عشرين دقيقة.

تفرس ( محمد ) في ساعة يده الموضوعة فوق المنضدة والمحشورة بين كومة من الأوراق والكتب، ثم سحب هواء الغرفة وأطلق من رئتيه زفرة ساخنة ودخل في سباق مع الزمن، فقد تأخر عن موعده المحدد مع صديقه ( عبد الرحيم ) أكثر من نصف ساعة ولم يكن بالتأكيد دقيقاً في هذا الموعد مثل دقة ساعة يده السويسرية الصنع تلك. عشرين دقيقة بالكاد كانت كافية لتهيئة نفسه وأخذ حمّامٍ سريع يطرد به سلطان النعاس، ويضع كمية من الكريم المرطب ويصفف شعره، وقبل أن يجتاز عتبة الدار ألقى نظرة سريعة في دولاب ملابسه، وأخذ يتفحص بدلته الأنيقة السوداء وربطة العنق، ثم ألقى نظرة داخل علبة صغيرة مركونة على الطاولة التي تعتليها مرآة، كانت هذه العلبة بجانب زجاجتين من العطر الفرنسي الفاخر.

وبسيارة ( عبد الرحيم ) انطلق الصديقان نحو أسواق العاصمة. وهناك، كان ( عبد الرحيم ) بارعاً بحق في اختيار أجود الفواكه والحلويات، وفي المجادلة في الثمن واقتصاص بعض الأسعار. الليلة ينتظر ( محمد ) حدثاً مهماً لطالما انتظره بفارغ الصبر وأعد له الدقائق والساعات، ولم تثن عزيمته في سبيل الحصول عليه التأخير والتأجيل وكرور الأيام.

وعند استراحتهما في أحد مقاهي العاصمة المطلة على شارع يعج بالمركبات وبالسابلة، أخذ ( محمد ) يستعيد شريط ذكرياته، وتمثلت صورة ( لمياء ) في مخيلته عندما رآها لأول مرة في حرم الجامعة بقدها الممشوق، وعينيها الفاتنتين المختبئتين خلف نظارة شمسية، لقد خفق فؤاده لها طرباً وحال دون فراره قفص صدره، لقد اقتحمت هذه الفتاة قلبه الصغير دون تروٍ واستئذان. كان كل شيء حينها يسير حسب الرغبة والمراد، لولا تلك الليلة المشؤومة قبل شهر، وقبل أن يتم عقد القران بدقائق عندما أرسل أحدهم صوراً تجمعه مع فتاته في عدة أماكن، فثارت ثائرة ( أحمد ) الأخ الأكبر للفتاة وتم إلغاء كل شيء لولا تدخل بعض الشخصيات من الطرفين.

كانت الساعة الإلكترونية للسيارة تشير إلى الواحدة والنصف ظهراً عند عودتهما من العاصمة، وعلى أعتاب القرية انحرفت السيارة وشقت طريقها بخفة فوق الرمال مخلفة خلفها كومة من الغبار عندما اقترح ( عبد الرحيم ) أن يذهبا بجولة استطلاعية سريعة، في منطقة برية نائية تكثر فيها الطيور الموسمية المهاجرة، وتبعد عن القرية مسافة أميال، ولكي يستعيدا في هذه المساحة المقفرة ذكريات الماضي الرطيب.

وعلى أنغام الهواء التي تهادت لُأذنيه وتلاعبت بخصلات شعره، غاص ( محمد ) في أحلام اليقظة وأخذ يستذكر وصف أحد زملاءه عن المكان الذي ينوي أن يقضي فيه شهر العسل بعد ستة أشهر في ماليزيا، حيث الطبيعة الخلابة، والمناخ الجميل، ونخيل جوز الهند المترامية هنا وهناك، حتى انطلق بعيداً بأحلامه الوردية وتصور الفندق الذي سيقيم فيه بجانب البحر، ونزوله هناك مع ( لمياء ) يتمشيان فوق رمال الساحل الناعمة، ويتخطيان الأجساد المتشمسة، فيميل وجهه ناحية فتاة، فتلكزه ( لمياء ) بكوعها وتدير وجهه ناحيتها وتضغط بإصبعيها على خده.

تطايرت أفكار ( محمد ) وكذلك ابتسامته الرقيقة المطبوعة فوق شفتيه مثل تطاير عصافير من فوق شجرة عندما اهتزت السيارة بفعل مطبٍ رملي. بعد دقائق من المسير ترجل الصديقان من السيارة ووقفا عند بئر قديمة تنتصب بجوارها شجرة صحراوية خضراء، جلسا معاً فوق فوهة البئر يتجاذبان أطراف الحديث، ولا بأس من أخذ بعض الصور التذكارية بواسطة الهاتف الجوال، ومن دون سابق إنذار انزلق مفتاح السيارة من يد ( عبد الرحيم ) وسقط داخل البئر وقد تردد صدى ارتطامه بالأحجار، ومن خلال الفحص تبين أن البئر عميقة ومهجورة قد جفت مناهلها، جلب ( عبد الرحيم ) حبلاً من سيارته وربط أوله في جذع الشجرة القريبة وهوى بالطرف الآخر داخل البئر، ثم تريث قليلاً وهو يدقق النظر في الحبل ويستوثق من مدى تحمله.

- أنا سأنزل داخل البئر، لأني أخف منك وزناً. نطق ( محمد ).

- ......... حسناً لا بأس.

قذف ( محمد ) بالمفتاح وهو أسفل البئر، فتلقفه ( عبد الرحيم ).

بعد نصف دقيقة سقط طرف الحبل المشدود بجذع الشجرة داخل البئر.

- ماذا حصل يا عبد الرحيم ؟ استفسر ( محمد ).

- لقد أجبرتني على فعل ذلك، إن لم تنجح الحيلة الأولى لا بد أن تنجح الثانية، لن تخرج من هذا البئر، لن تتزوج لمياء ما دمت حياً. قال كلماته ثم اختفى.

- لسنا في موقع مزاح، عبد الرحيم، عبد الرحيم، عبد الرحيم.

بدأ صوت محرك السيارة في الاشتغال ثم اختفي تدريجياً مع ابتعاد السيارة حتى عم السكون أرجاء المكان..

مرت ساعتان، وثلاث، وأربع، ولم تنفع صرخات الاستغاثة التي أطلقها ( محمد )، بل كان صداها لا يتعدى محيط البئر إلا مسافة أمتار، بدأ الظلام يهبط تدريجياً بأجنحته القاتمة داخل البئر بعدما حطت الشمس برحالها ومالت بقرصها ناحية الغرب، بعد ساعتين أو ثلاث من الآن سيكون موعد عقد القران، ماذا سيفعل ( محمد ) وهو في هذا الحال ؟ بدأ يتخيل سماع أصواتٍ منبعثة من داخل البئر، لا بل هي أصواتٌ حقيقية على ما يبدو، ثمة عينان تبرقان هناك في الظلام، يا إلهي إنهما تقتربان منه تدريجياً، لمعت خلفهما أيضاً عينان، ثم عينان أخريان. الآن بدأت ملامح هذه المخلوقات تتضح نوعاً ما، إن لها أجساداً تشبه أجساد البشر، ورؤوساً خالية من الشعر، وأسناناً بيضاء حادة ولساناً متدلياً يقطر منه اللعاب، هجم أحد هذه المخلوقات على ( محمد ) فتخطاه الأخير بصعوبة فائقة.

أراد الهرب أو الصعود للأعلى ولكن قدميه بطيئتين وثقيلتين وكأنهما محملتان بأغلالٍ من الحديد، وفي المرة الثانية عند محاولته الفاشلة في الصعود للأعلى سقط ( محمد ) على ظهره، نهض من فوره وبطنه يعلو ويهبط، اشرأب بعنقه وهو يحملق في النور المنبعث من خلف نافذة الدار، هرول للأمام، فتح خزانة الملابس وألقى نظرة على بدلته السوداء وربطة العنق، التفت أخيراً لنداء الهاتف المتواصل وطرقات والده العجوز بعدما أعاد المحبس إلى مكانه في العلبة المركونة بجانب زجاجتي العطر..

- نعم يا أبتاه.

- انهض يا بني، صديقك ( عبد الرحيم ) ينتظرك في الخارج منذ عشرين دقيقة.