أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: رأيت فيما يراه العابر

  1. #1
    الصورة الرمزية خالد بناني
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 529
    المواضيع : 74
    الردود : 529
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي رأيت فيما يراه العابر


    على الضفة الرباطية من أبي رقراق ثمة مقهى أنيق كل ما فيها، تغري بالجلوس إلى طاولاتها التي ليس بينها وبين حواف الماء سوى بضعة أمتار. مذاق القهوة بالكراميل لم أحبذه، وادّعيت العكس وأنا أحاول إقناع سيدة البهاء باختيارها عوضا عن الحليب الدافئ الملون الذي لم نستطع تمييز مذاقه. غيّرت مشروبها بالكريما المخفوقة التي أرادتها سمراء فجاءتها بيضاء، والبياض على مشارف زرقة الماء التي يكتنفها الغروب محض نشاز.
    سيدة البهاء تكره الرباط، وإن لم تعن ذلك حرفيا فهي على الأقل لا تحبه، لا تستسيغه على قدر ما يفترض به، غير أنها تظل شغوفة بضفاف الماء حتى وإن كانت رباطية أو سلاوية. أتموضع حيال المراكب التي تنقل الراكبين بين الضفتين جيئة وذهابا دون أن تشغلني فكرة الجسر الممكن إقامته، خاصة مع قصر المسافة. على يميني سيدة البهاء وقد جلست بشكل متعامد معي حتى تتمكن من تأمل الأضواء الملونة والكثيرين الذين يشغلون تلك الأمتار. أزحزح الشمسية قليلا حتى يصير مجالها البصري أوسع، فيما أكتفي بتأمل الشاغلين مجالي الأضيق. أنظر إلى صاحب البشرة السمراء والشعر الأكرد الذي قضى عمره في محاولة جعله لولبيا حتى نجح. أنظر إليه وهو يسقط من الزاوية القائمة للحافة سقوطه المدوي ذاك ليسبح عائدا ومعيدا سيرته الأولى. أسأُلني: ما المتعة في تكرار السقوط؟ أُجيبني: إنه الدوي حتما، أو شيء ليس علي السعي لاكتشافه. سيدة البهاء تقلقها الأسئلة التي لا أجوبة قاطعة لها، ولو أني سألتها: لم يفعل ذلك؟ لاكتفت بالقول على وجه استنكار: إنها المتعة.. المتعة.
    المتعة بالنسبة لها تفسر كل شيء، أما بالنسبة لي فكل متعة تحتاج إلى تفسير. أنظر إلى صياد يقف بملامح متزنة متوازنة، لا فرِحا ولا غضِبا. يخبر زوجته أن بإمكانها الانصراف وأخذ ابنها معها، ودون انتظار استدارة تامة منهما يبدأ تحريك بكرته ليجر خيطا لا يجر شيئا معه.. لا شيء سوى الشوكة التي علق طعمها دون أن تعلق. أنظر إلى شاب يضع كرة على خط مستقيم مُنته بثلاث قارورات مملوءات بالماء حتى المنتصف، يبتسم للأطفال فيستجيبون وهم ينسلّون من أيادي آبائهم الذين يستجيبون بدورهم. يستجيب الأطفال عن براءة، والراشدون عن تحدّ، ويخفقون جميعا. يبتسم صاحب اللعبة لهم تباعا ويحني رأسه قليلا كل مرة في شبه اعتذار عن سوء حظهم، حظِّهم الذي يُكسبه الدراهم حلالا مخططا له. أخبر سيدة البهاء بأن اللعبة تستند في مبدئها على الفيزياء، قوة القذيفة واتجاهها والقارورة الواجب التركيز عليها واحتمال نجاح المشارك في إسقاط القارورات الثلاث مرة واحدة، تذكرني أنني أخبرتها بذلك قبلُ (على مشارف مائية مغايرة)، فأهز رأسي مبتسما حتى نتجاوز الأمر. أنظر إلى شاب ليس معه سوى نظارتين ثلاثيتي الأبعاد، يتناوب على ارتدائهما المشاركون لمشاهدة فيديوهات قصيرة لا يكاد الواحد منها يتجاوز الدقيقة. كان شابا يتقن بيع الوقت حقا. أتأمل المشاركين تباعا وهم يجربون اللعبة، وأحاول تمييز القدماء منهم عن أهل الجِدّة. القدماء يتمايلون قليلا، ينفعلون قليلا، بأصوات خافتة في حدها الأدنى، أما الآخرون فسرعان ما يُفصلون عن واقعهم وهم يبدؤون بالصراخ والتمايل، ويمدون أياديهم محاولين الإمساك بأحد من مرافقيهم وكأن الأرض انجرفت بهم، أو كأنهم يحاولون تجنب السقوط والاصطدام. تشغلني المفارقة على وجه بائع الوقت، إذ إن ابتسامته التي يبدأ بها وضع النظارة على عيني المشارك لا تشبه في شيء ما ينحته على الشفتين الميتتين وهو ينزعها عنه دون أن يودعه بصريا، مكتفيا بالالتفات الفوري نحو عيون جديدة. تأتيني امرأة بمناديل الأنف الورقية "تعاون معايا" فلا أشتريها، لا لأنها من النوع الرديء الذي سرعان ما يتلاشى باليد بمجرد أن تتعرق فقط، ولكن... أشكرها فتنصرف فورا غير عابئة بالكلمة. أدري أنها سئمت من الكلمات المتشابهة، مثلما أدري أنني سئمت من تشجيع الرداءة حتى وإن من باب التعاطف الإنساني.
    يأتيني شاب مطفأة إحدى عينيه بحوالي ست وردات، "خود مني وريدة"، أشكره مبتسما، يبقي يده ممدودة نحوي على الطاولة "واخا غي وريدة؟" وكأن إضفاء الاستفهام على الطلب سيغير من المعنى شيئا. أعيد شكره، فيسحب يده ويشيح بوجهه عني، ثم يصلني صوته جافا على غير نبرة التودد الأولى وهو يقول "وتشّا غي ماباغيش تتعاون مع خوك". أشعر أنني أغلي، فأجهر لسيدة البهاء قبل أن تباغتني الفقاعات وهي تطفو بعينيّ إن أنا ظللت صامتا. "تعاون معايا.. ماباغيش تتعاون مع خوك".. أنا لا أمثل الدولة، أنا عابر سبيل، تعاون معايا تستوجب مساعدتهن جميعا. لم تكن واحدة، إنهن خمس نساء، إحداهن مرضع. وأهل الورد؟ طفلتان ثم طفلة ثم طفل ثم شاب آخر، عدا صاحب العين المطفأة. إنهم ستة. أحتاج أربعين درهما على الأقل لأراضيهم جميعا، ثم إن الطفل هو الأحق بأخذ الوردة منه، هو الأصدق بينهم، صدقه طافح منه صامتا وناطقا وناظرا، وأنا لا أملك الدراهم لحظتئذ. الطفل وحده من سيجبرني على أخذ الوردة لا كي أهاديك بها، فأنا لم أتعود اقتناء هدية لكِ وقد أتت معروضة عليّ كما على العشرات غيري، ولكن سآخذها منه حتى أكرمه وأكرم عنفوان القناعة والرضا الذي يكسو أسماله إذ يحاول بيع ما معه. لو أنه يعود فقط.. لو يعود...
    يعود صاحب العين المطفأة بصوته الأول، صوته الذي يجاهد حتى يبديه دافئا وعينه الكاذبة إذ تدّعي الصدق "خود مني غي هادي لي بقات"، أرفع كفي حياله دون كلمات، فيسدل يده بالوردة الوحيدة المنكفئة ساقا على أوراق، والصمت الذي خلفه وراءه يواصل "كنت واثقا أنك لن تأخذها مني.. كنت واثقا تماما"...

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 22,522
    المواضيع : 376
    الردود : 22522
    المعدل اليومي : 4.80

    افتراضي

    أولا وقبل كل شيء أرحب بك في واحتك التي طال غيابك عنها
    فأهلا بك وسهلا ولك كل التحية والتقدير.
    رأيت فيما يراه العابر..
    رأيت فرسمت بالكلمات لوحة معبرة تداخلت فيها الصور بحديث النفس
    وكأنك جعلتنا نشاركك في هذه الجلسة في ذلك المقهى الأنيق ونتمتع بمشاهدة
    ضفاف الماء مع سيدة البهاء لنشاهد المراكب التي تنقل الراكبين بين الضفتين
    ونشاهد ذلك الأسمر الذي يستمتع بالقفز في الماء مرة بعد مرة
    ثم تتوالى المشاهد لنرى ما يحدث على الشاطئ من محاولات لكسب الرزق
    بطرق مختلفة ـ وأولئك الباعة المتجولين اللذين لا يملون من عرض بضائهم الرديئة
    على الجالسين.
    مبدع أنت في رسم صور تطرب لها النفس وتحلق في عوالمها المخيلة
    بأسلوب بديع وبلاغة شائقة ولغة معبرة قوية الوقع.
    شكرا لك على هذا الإبداع والإمتاع والتألق.
    وأهلا بك في واحتك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Nov 2019
    المشاركات : 3,965
    المواضيع : 299
    الردود : 3965
    المعدل اليومي : 1.96

    افتراضي

    نص جميل ومعبر فيه ألق التأمل وبوح الوجدان
    وباقة من الخواطر الجميلة تنبض شعرا وموسيقى في لوحة جميلة استمتعت بتأملها
    فشكرا من القلب على هذا البهاء.