يَرْحَلُونَ…
كَأَنَّ الرَّحِيلَ عِنْدَهُمْ نُزْهَةٌ عَابِرَةٌ،
وَكَأَنَّنَا لَسْنَا فِي تَفَاصِيلِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ظِلٍّ يَمُرُّ عَلَى جِدَارٍ.
يَرْحَلُونَ…
وَيَتْرُكُونَ خَلْفَهُمْ أَرْوَاحَنَا مُعَلَّقَةً عَلَى حَافَّةِ الذِّكْرَى،
تَتَدَلَّى مِنْهَا تَنْهِيدَةٌ، وَتَتَشَبَّثُ بِهَا عَبْرَةٌ لَمْ تَجِدْ طَرِيقَهَا لِلنُّورِ.
لَا رِسَالَةَ وَدَاعٍ .. لَا هَمْسَةَ رَجَاءٍ .. لا الْتِفَاتَةً أَخِيرَةً تُشْبِهُ الْغُفْرَانَ…
فَقَطْ صَمْتٌ ثَقِيلٌ كَالْكَفَنِ، وَمَكَانٌ بَارِدٌ لَمْ يَعُدْ لَهُ دِفْءُ الْوُجُودِ.
أُحَادِثُ غِيَابَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ،
أَرْسُمُ وُجُوهَهُمْ فَوْقَ جِدَارِ اللَّيْلِ،
وَأَضَعُهَا عَلَى وِسَادَتِي قَبْلَ النَّوْمِ،
عَسَانِي أَلْمَسُهُمْ فِي حُلْمٍ عَابِرٍ…
وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ.
يَا الله…
كَيْفَ لِقَلْبِي أَنْ يُكْمِلَ الطَّرِيقَ، وَحُطَامُهُ يَتَبَعْثَرُ عِنْدَ كُلِّ زَاوِيَةٍ كَانُوا يَمُرُّونَ بِهَا؟
كَيْفَ لِلْحَنِينِ أَنْ يُشْفَى، وَكُلُّ نَبْضَةٍ فِيهِ تُنَادِي اسْمًا لَا يُجِيبُ؟
الْفَقْدُ لَيْسَ مَوْتًا فَقَطْ…
بَلْ حَيَاةٌ أُجْبِرَتْ أَنْ تَسْتَمِرَّ بِوَجْهٍ خَالٍ، وَقَلْبٍ مَعْطُوبٍ،
وَكَلَامٍ يُخَبِّئُ خَلْفَهُ بُكَاءً لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ.
هُمْ لَمْ يَرْحَلُوا فَقَطْ .. بَلْ سَرَقُوا الضَّوْءَ مِنْ عُيُونِنَا،
وَتَرَكُونَا نَسِيرُ فِي دَهَالِيزِ الذِّكْرَى بِأَقْدَامٍ حَافِيَةٍ.
كَمْ تَمَنَّيْتُ لَحْظَةً وَاحِدَةً .. أَضُمُّ فِيهَا مَنْ رَحَلَ،
أَقُولُ لَهُ كَمْ أَفْتَقِدُهُ .. كَمْ ضَاقَ قَلْبِي مِنْ بَعْدِهِ،
كَمْ أَنَّ الْحَيَاةَ بَعْدَهُ لَيْسَتْ حَيَاةً،
بَلْ مُجَرَّدُ انْتِظَارٍ بَارِدٍ لِمَوْعِدٍ لَنْ يَأْتِي.
أَيُّهَا الرَّاحِلُونَ…
إِنْ كَانَ لَكُمْ أَنْ تَعُودُوا لَحْظَةً،
عُودُوا لِنُخَبِّئَكُمْ فِي قُلُوبِنَا جَيِّدًا…
كَيْ لَا تَفْلِتُوا مَرَّةً أُخْرَى،
عُودُوا لِنَقُولَ:
لَا تَتْرُكُونَا وَحْدَنَا فِي هٰذَا الْعَالَمِ الْغَرِيبِ.