كان يجلس في أقصى المقهى، كما اعتاد كل مساء، روتين لا ينقطع، يحدّق في الباب منتظرًا وجهًا بعينه.
كانت نظراته معلّقة بكوب القهوة الساخن، يتصاعد منه بخار كأنفاس الذاكرة، وعبير البن يغزو أنفه، يوقظ في أعماقه خريفًا من الذكريات.
تمردت صور غائرة في ذهنه، زحفت عبر الأعصاب نحو أطرافه المرتجفة، فمدّ يده نحو الفنجان كأنما يمدّها نحو ماضٍ يحترق. ارتعشت أصابعه، وارتجف قلبه كعصفورٍ في عاصفة، فأفلت المقبض من بين يديه، وكاد الفنجان أن ينسكب.
المقهى يعجّ بالوجوه والأصوات، ضحكات تختلط بأزيز الأكواب ووقع الخطوات، لكنه كان في عزلة شفافة، كأن الزحام كله على بُعد حلم. جالسًا على طاولة بكرسيين متقابلين أمام الباب الرئيس مباشرة.
نفث دخان سيجارته، ولهبها يتقد كعينيه المعلّقتين بالمدخل. كلما فُتح الباب، خفق قلبه، اجتاحته وخزات كهربائية، وتصبّب العرق على جسده، فمدّ يده إلى رقبته كمن يدلكها لتخفيف الشعور. أشعل سيجارة أخرى، حطّها بين شفتيه اليابستين، بدأ يفرك أصابعه كمن يحاول تدفئة زمنٍ بارد، رمق ساعته، ثم عاد بعينيه إلى الباب… لا شيء.
مرّ الوقت كقطراتٍ تتساقط من ساعةٍ رملية متعبة، ينقر على الطاولة، يبدّل جلسته مرارًا، كأن الأرض تحت كرسيه من جمرٍ ينتظر المطر، ولا شيء في العالم يهمّه سوى ذلك الباب.
مدّ يديه إلى جيبه، وأخرج صورة بعناية، كأنها قطعة من روحه. حدّق بها بعينين مغرورقتين، دون أن يذرف دمعة، ومرّر أصابعه على حوافها، يستشعرها، كأن لمسها يعيد إليه شيئًا ضائعًا من ذاته. ذاكرته تهتز مع كل حركة، تغوص في أحداثها، ويعيده وقعها إلى الماضي… لكنه يعود إليه بمرارة وحسرة.
مرّ الوقت، وكان يسبح في بحر ذكرى ماضيه الأليم، يسترجع ما يهدئ توتره ويعيد إلى وجهه ابتسامته الضائعة، التي طالما جلجلت في هذا المكان. هزّ رأسه نحو الكرسي الفارغ أمامه، وضع الصورة بقربه، ومسح على عينيه الدموع المتيبسة. تبسّم للكرسي وكأنه يخاطبه بصمت، وارتسم على محياه نظرة تساؤل، حولت مسار رؤيته نحو الباب… فتسمرت عيناه عليه.
وحين فتح الباب، قفز من مقعده كمن يعود إلى الحياة بعد موات. في ذهنه، ظهرت هي بنفس المشية الواثقة، نفس الضحكة، كل إشارة بيديها، كل لمسة لشعرها، كل خطوة… كان ذهنه يعيد له مشاهد ألفها، مرآة للحظات انتظرها طويلاً. هل تتحقق أمامه؟ تقدّم نحوها كما اعتاد، ليستقبلها بقبلة حارة على جبينها وحضن دافئ…
غير أن الخطوات التي حلم بها طويلاً لم تتجه نحوه.
رآها تقف في منتصف الطريق، تبتسم لرجلٍ آخر، ثم تجلس قبالته. تجمّد في مكانه، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، وانهارت كل الصور التي كان يحملها في قلبه وذاكرته.
استدار نحو كرسيه، نظر إلى الصورة فوق الطاولة بحسرة. كان من عادته، بعد طول انتظار، أن يعيدها إلى محفظته… لكن اليوم، تركها مكانها، كأنما ترك جزءًا من ماضيه يختلط بالحاضر، ليعيش الحاضر على مضض.
تقدّم نحو الباب، مطأطئ الرأس وبائسًا، وهمّ بالخروج…
فجأة، ربت النادل على كتفه وقال:
— سيدي، لقد نسيت هذه الصورة على الطاولة.
تجمّد للحظة، وصمت طويل ارتسم على وجهه. كل شيء عاد إليه دفعة واحدة: الانتظار، الذكريات، الخيبة…
أخذ الصورة من يد النادل، ملمسها البارد كالصقيع في كفّيه، وألمها الدفين بركان في ذاكرته. ثم تابع طريقه، حاملاً معه وجعًا لا يُقال، وذكرى لا تريد أن تحرّره.