لما استلمت بلقيسُ الرسالة،
فطنت لمعناها، والشورى أمانة.
بدأت بإسمِ الله، مقدّسةً بالجلالة،
أرسلها نبيٌّ ملكٌ، حاملُ ديانة،
يدعوها وقومها لترك الجهالة،
عبادة شمسٍ… ملّةٌ كالتجارةِ الخسرانة،
دعوةٌ لدينِ الحق، بلا ضلالة،
تنير القلوب، والعقول الحيرانة.
تشاوروا، وبالعطاء ناوروا
فاجتمعوا على إرسال الهدايا،
عطاءٌ نفيسٌ، لكشفِ النوايا،
طمعٌ في الملك، إن قَبِلَ العطايا،
ورفضٌ دليلُ نبوةٍ تدعو بالوصايا،
توحيدُ اسمِ اللهِ دون خطايا،
واتباعُ رسله، وسبلُهم مرايا.
قال تعالى:
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾
(النمل: 35)

رفضٌ حكيمٌ لنبيٍّ قويمٍ، ثابتٌ على الحقِّ لا يميلُ.
ما كان سليمانُ يأخذ الهدايا من الملوك،
لكنه نبيٌّ، ودعوتهُ تطفئُ نارَ الشكوك،
رفضَ العطايا، وأتاهم بالرد:
فما عندَ ربي خيرٌ من عطاياكم،
ونصرةُ الحقِّ أغلى من مراميكم،
وسنأتي على سبأٍ بجنودٍ لا تُهزم ولا تُرد،
تذلّ الجاحدين، هزيمةً وطردًا لا يُصدّ.
قال عز وجل :
> ﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ ۖ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾
﴿ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾
(النمل: 36
–37)

ذهلوا فنقلوا الخبر، فقررت بلقيسُ السفر.

انبهرَ رسلُ بلقيسَ من ملكِ سليمانْ،
عرشٌ عظيمٌ، وطيرٌ، وجانْ،
ريحٌ بأمرٍ، ومقامٌ،
ما رأَوا نظيرَه، ولا كانْ.
وصل الخبرُ بلقيسَ في سبأ،
فارتأت أن ترى بعينيها المكان،
للتصديقِ، وتأكيدِ النبأ.

معجزة النبي، ودعاء العبد المستجاب

فأراد النبيُّ إظهارَ قدرةِ الله،
أن يُثبت بالدليلِ عظمته،
فطلب أن يأتوه بعرشِ بلقيس،
فدعا من أوتي علمَ الكتاب،
فكان نِداؤه عندَ اللهِ مستجاب،
فكان عرشُ سبأ، أمامه بلا ارتقاب.
قال تعالى:
> "قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ"
(النمل: 40
)
عرشٌ واختبارٌ، كيف يكون القرار؟
أمرَ نبيُّ اللهِ تنكيرَ عرشِها،
تبيانًا لقدرةِ الله، وامتحانًا لعقلِها.
عرشٌ مهيبٌ، خلفته وراءَها،
تراهُ مستقِرًّا، والسؤالُ يلهمها
قال عز وجل:
﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾
(النمل: 42
)
رأت بقلبها العرش بديلاً،
فأجابت بعقلها، والشكُّ يتدفّقُ،
ربما هو لرمزٍ ملكيٍّ مثيلاً،
انتُزعَ من سبأ، ورحيلهُ قد سبق،
من قام بهذا؟ أمرٌ مستحيلاً.
يقينُ العقلِ يؤمنُ أن هاتهِ قوّة،
وشكُّ عقيدةٍ، لنشأتها مكمنُ الهوّة.
قال تعالى:
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِّن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾
(النمل: 43
)
قصرٌ من زجاج، سبيلُ هُدى وسراج
دُعيتْ بلقيسُ لدخولِ قصرِ سليمانْ،
صرحٌ أُبدِعَ في تصويرِهِ الجانْ،
مياهٌ تجري، وزجاجٌ بلّوري،
أسماكٌ تسبحُ بمنظرٍ يُغري،
كبحرٍ يُرى غورُهُ للعيانْ.
أرادتْ لقيا سليمانَ عبورًا،
بمشيّةِ الملوكِ وقارًا.
رفعتْ توبها من وهمِ الغمر،
فكشفت ساقيها،كي تمر،
سمعتْ سليمانَ لها يقول...
الصرحُ زجاجٌ مصقولٌ، لا تخافي البللْ،
أوطئي بقدميكِ، فسطحه بلّورٌ لا يُغمرْ.
اندهشتْ بلقيسُ، والعقلُ انأسرْ،
بما رأت، قبلَ وبعدَ دخولِها القصرْ،
فـتأكّدَ لها أنّ المستحيلَ اندثرْ.
قال عز وجل:
﴿قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِي ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قِيلَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾
(النمل: 44
)
تبدّد ظلامُ الفؤاد، والعيونُ ترى،
عرشًا نُقِل، وصرحًا صُقِل،
فكانت مرايا، واليقينُ تجلّى،
بينَ عظمةِ ملكٍ، ومُلكٍ أذل،
دينُ هُدى، ودينٌ أضل.
فكان لسليمانَ ما تمنّى،
آمنتْ بلقيس، والنبيُّ قد أسدل،
ستارَ الكفرِ، وللهِ الفضلُ الأجل.
سقطتِ العصا.. وانكشف السر، اللهُ وحدَه من يدبّر.
جاء وقت القضاء، والقدرُ قد أقبل،
انتهى عمرُ سليمان، وحان الأجل،
روحه في السماء، وجسده في الأرض ما ارتحل،
ماتَ متكئًا على عصاه،
والجِنُّ خدمٌ باقون، له يتلصصون،
مأتمرونَ له، لا يعلمون ما حصل.
قال تعالى:
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُۥ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُوا۟ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ﴾
(سبأ: 14)