أسدل الليل ستاره على الغرفة، وسناه الضعيف يخترق النافذة كنور شمعة باهتة.
ينساب الضوء، يرسم أشباحًا متراقصة على أرضية الزنزانة، كلما هب نسيم الريح عليها.
جلس متجمّدًا على ملاءته بوضعية القرفصاء، يحدق في تلك الأشباح الوهمية، يتتبع حركاتها كمن يرقص معها.
كلما غيرت اتجاهها مال نحوها، وكأنه يخاطبها بصمت.
دويّ رعدٍ هزّ المكان، مع نورٍ ساطعٍ أضاء الغرفة فجأة ثم تلاشى بسرعة.
قفز سجيننا تلقائيًا، وسقط على أرضية الزنزانة، واندفع إلى أقصى الزاوية مذعورًا.
ظل متجمّدًا لبرهة، وضع يديه على وجهه، كأنه يخفي عينيه، ثم بدأ يختلس النظر إلى النافذة كمن يتجسس عليها، كمن ينتظر شيئًا ما سيحدث.
كانت ضربات قلبه متسارعة، وأنفاسه تتلاحق كمن خرج من حلمٍ ثقيل.
بعينين زائغتين أخذ يتلفّت حوله، يبحث في زوايا الزنزانة عن تلك الأشباح...
كانت ما تزال هناك، ترقص كما كانت، لكن شيئًا ما تغيّر.
لم تعد تبدو له كرفاق، بل كظلال باردة لا روح فيها.
أدرك فجأة أنها لم تكن سوى أوهامٍ صنعها ليؤنس بها وحدته.
مضى عليه بعض الوقت، زال توتره، وانتظمت ضربات قلبه، التي رغم ضعفها، كانت تحاول الخروج من صدره النحيف.
توجه إلى منتصف الغرفة، مدّ يده ببطء يتحسس ملاءته.
كانت دافئة قليلًا، وقد اعتاد الجلوس عليها، رغم برودتها أحيانًا.
استلقى جانبًا، وداعب جانبها الآخر إليه كأنه يعانقها، يبحث عن دفء فقده، عن إحساس يلتصق به، يمنحه شعورًا بالوجود والأمان.
ضم الملاءة إليه من جديد، كما يضم ذاكرة نسيها، يبحث في نسيجها عن رائحة حياة.
وبدأ يبكي فجأة، وانهمرت الدموع من عينيه كغيث شتاء غزيرة، لا يستطيع كبحها.
همهم بكلمات مبهمة، غير مفهومة، كأنها اختلاط للألم والحنين والخوف.
وكأن دموعه غسلت شيئًا في داخله، فصفا صدره من الغبار، وشعر بدم جديد يتدفق في عروقه.
ثم نهض فجأة، كمن استجمع قوة من العدم.
عيناه تتقدان بنار صامتة، يتحرك بخطوات مترددة نحو منتصف الغرفة، يحاول إعادة ترتيب نفسه، كمن يعيد شظايا وجوده المتناثرة.
اتجه نحو النافذة، وأمسك القضبان بقوة، يهزها بعنف كما لو أراد أن يهز العالم كله.
ثم صرخ، صوته يتردد في الزنزانة، مزيج من الألم والغضب:
«لن… لن أنكسر…
لن أنكسر!
مادام قلمي… وصوتي معي… فلن… لن أنكسر!»
نظر إلى السماء بين فتحات القضبان، وامتزج وهج ضوء القمر بعينيه البريئتين، كأنه يمتص نور النجوم.
ابتسم ابتسامة عريضة أظهرت أسنانه البيضاء المتراصة، النظيفة كقلبه النقي، تضيء وجهه البائس الذي تحولت بشرته من بياض إلى شبه سواد من قلة الاستحمام.
استجمع قوته، واتجه نحو باب الزنزانة، مندفعًا، أخذ يضرب عليه بكل ما أوتي من قوة، وصداها يزلزل المكان، وقال:
«أتعرفون معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في الكلمة… ودخول النار على كلمة… وقضاء الله هو الكلمة.
الكلمة نور… وبعض الكلمات قبور…
الكلمة فرقان بين نبي وبغاة…
الكلمة نور…
الكلمة مسؤولية…
الكلمة زلزال الظالم…
والكلمة حصن الحرية!»
خيم الصمت لحظة داخل الزنزانة، لينطلق صدى كلماته في الهواء، يتردد بين الجدران، كأن كل كلمة تبحث عن مخرج لتؤكد صدقها ونبلها، ويصبح المكان كله شاهدًا على قوله:
«لن أصمت بعد الآن…
لن أكتب فقط…
بل سأتكلم!»