مملحة
على جانب السور, يمتد رصيف يفصله عن الطريق الإسفلتي صف طويل من الأشجار , ويكاد لا يجرؤ سواها على تحدي علو وارتفاع أسوار ثانوية المأمون * , تشرأب أشجار النخيل متطاولة إلى عنان السماء وكأنها طابور من جند مملكة أسطورية تكاد سطوتهم تجبر المارةَ على السير في الممر بينهم وبين سور ثانوية المأمون , ودون مبالاة أغذذت السير استبق الزمن , لقد تأخرت كثيرا عن موعدي, وكل ما أخشاه أن ينفرط عقد الاجتماع , فأعود خالي الوفاض ويفوتني التصويت على مشروع المترو السريع , الذي سعيت جاهداً وكدت أبلغ اليأس في إقناع الآخرين بحيوية المشروع وجدواه في وصل الكتل السكنية المترامية حول أطراف مدينتي , وكأنها تفر في تسارع محموم, تبتعد فيه عن ثلاثة آلاف عام من التاريخ , لتلحق بركب الحداثة , أخرجني من استغراقي شيء على جانب الرصيف لم أتعوده, التفت إلى الخلف لأرى شيخاً كبيرا قد تربع واسند ظهره إلى السور, يعرض أشياء زهيدة , قلت في نفسي : أسلوب يتكسب به الشيخ ويقي نفسه مذلة السؤال, لابد لك أن تشتري شيئاً منه !
عدت أدراجي متفحصا معروضاته , هنا علب كبريت صغيرة مميزة اذكرها في طفولتي, وقد اختفت من الأسواق منذ ثلاثين عام مضت من عمري, هنا فتيل برتقالي اللون لم أزل اذكر جدي وقد كلت كفه من قدح عجلة الصوان, و انتفخت أوداجه وهو ينفخ الجمرة العالقة بالفتيل, لتزداد توهجاً , ثم يشعل منها سيجارته , وينفث سحباً كثيفة من الدخان ثم يلحقها بكحات طويلة متواصلة من السعال لم احتمل البقاء لسماع آخرها يوماً .
هنا أشياء أخرى لا اعلم لأي عصر تنتمي, ولم أجد ما يلزمني سوى علبة اسطوانية تضم أعدادا لانهائية من الأعواد الدقيقة تنظف بها الأسنان من عوالق الطعام, خيل إلي أنها تكفي لسنوات مديدة ينتهي بها عمري دون أن تفرغ , وبعين الشيخ الفاحصة المدركة , علم أنني ارغب في تلك العلبة فراح يزين لي شرائها :
يابني ! هذه العلبة مفيدة جداً , هذه أعواد تنظف بها أسنانك, تقيها شر التسوس, هذا غطاؤها مثقب, وعندما تفرغ يمكنك استخدامها مملحة لطعامك !
* ثانوية المأمون مدرسة شهيرة في مدينة حلب



رد مع اقتباس



