الطائر الشريد

مصطفى بطحيش


دجى الليلُ أضْرِمْ وَقِيْدَ السَّمَرْ
و عَزِّ الفؤادَ ببعض العِبَرْ
وحِكْ للدياجير حُزنَ القصيدِ
وشاحاً طَريراً وشُفِّ الصُّوَرْ
وخَلِّ الرياحَ تُثيرُ الشجونَ
وتعبثُ في جَمْرِكَ المُنْسَجِرْ
ورَتِّلْ مزاميركَ الثاكلاتِ
وحاوِرْ إذا ما عَجِمْتَ المَدَرْ
تسربلتَ بالحزنِ ناياً ثكولاً
يعابثُ فيكَ الاناةَ الضَّجَرْ
فَرَدِّدْ على وقْعِ نبضِ الحياةِ
فما اللَّحنُ غيرَ ارتعاشِ الوَتَرْ
مضى الصيفُ وانْسَرَبَتْ في يديهِ
وألقى عن الراحتينِ الثَّمَرْ
وأوقدَ من خوفِ قَرِّ الرحيلِ
شموساً يُذيبُ لظاها الحَجَرْ
ونَضَّبَ في الجَذْعِ أوْشالَهُ
وألقى زُهُوَّ الصِّبا وائْتَزَرْ
وعاثَتْ على مِنْكَبَيْهِ الهمومُ
ونَضَّبَتِ الوجنتين الفِكَرْ
وشابتْ بفُوْدَيْهِ سودُ الليالي
واعيا لدى السامرينَ السَّمَرْ
وصَرَّتْ جَداجِدُهُ في خُشوعٍ
وشيَّعَ منه المُقامَ السَّفَرْ
مضى مرغماً واستبدَّتْ رعودٌ
وودَّعَ منه الفُلولَ المَطَرْ
فرُحْتُ أقُصُّ على إثرِهِ
خُطى راحلٍ استبينُ الخَبَرْ
أويتُ إلى رُكنِ كوخٍ عهيدٍ
تمطّى على جانبيهِ الخَطَرْ
لأدرأ عنِّي غِضابَ أعاصيرِ
يومٍ عبوسِ الرُّؤى مُكْفَهِرْ
وكان الشتاءُ انتضى غيظَهَ
وولى خريفُ الهوى وازدَجَرْ
وما كنتُ وحدي ولكنْ شريداً
من الطيرِ آوى إليهِ ذُعِرْ
سلاماً ... سلامَ العصافيرِ إنَّا
صديقانِ في همِّ يومٍ قُدِرْ
تعالَ أقاسِمَكَ الهمَّ حيناً
وأمسحُ عن جانحيكَ الوَضَرْ
تعرَّى وعرَّى الشتاءُ الخميلَ
وأسفرَ عمَّا انزوى واستَتَرْ
وما كنتَ تدركُ عُرْيَ الفصولِ
وما كانَ يُضنيكَ عِشيُ النَّظَرْ
وما كانَ عَيشُكَ غيرَ التَّصابي
وما كنتَ تَعْلَمُ معنى السَّفَرْ
تُحَلِّقُ أنَّى يَرِفُّ الجناحُ
صدوحاً بحُضْنِ الربيعِ الأغَرْ
تُراودُ منكَ الهوى نَورةٌ
أفاقتْ على ثرثراتِ النَّهَرْ
يُساقيكَ إمَّا ظَمِئْتَ النَّدى
و يَضْمَخُ جُنحيكَ طُهرُ القَطَرْ
وترعُشُ بالفَرْحِ أم بالضّنى
ثَمُولَ الهوى أم عَيِيَّ القَدَرْ
وتأوي إلى أغصنٍ راقصاتٍ
يَمِسْنَ إذا ما نسيمٌ عَبَرْ
و يوريكَ فجراً شعاعٌ رمى
بنحرِ الدُّجى نَصْلَهُ فانْحَسَرْ
تغني طليقاً لهيبَ الجوى
نشيداً بطرفِ اللُّهاةِ استَعَرْ
وتصغي لكَ الأنجمُ الناهداتُ
عذارى ولم يَقْضِ منها الوَطَرْ
تَضُوعُ بأكمامِهِنَّ المُنى
ويُوْشِي بِصَبْواتِهِنَّ الهَذَرْ
فتغفو بكنف الرُّبى حالماً
صريعَ الفواغم بينَ الزَّهَرْ
وولى الربيعُ ... وولى الصِّبا
وضاقتْ برَحْبِ الفضاءِ الصُّوَرْ
فجِئْتَ كما جِئْتُ كي اتَّقي
بكوخٍ عهيدٍ غِضابَ المَطَرْ
تعالَ فبي مِنكَ بعضُ الصِّفاتِ
و بي مثلُ ما فيكَ بعضُ الوَضَرْ
وفي مِعْصَمَيَّ قيودُ الرُّؤى
وطارَ بجنحيكَ عِشْيُ النَّظَرْ
وأشقى بما صَرَّفَتْهُ الحياةُ
وتَحْيَىْ سعيداً خَلِيَّ الفِكَرْ
فيا ليتني كنتُ يوماً شريداً
يذودُ جناحاكَ عني الخَطَرْ
ويا ليتَها لَمْ تَلِدْني الحياةُ
بصيراً وأعيى بنورِ البَصَرْ