جولة في العالم الرقمي
بقلم د.محمد المختار زادني

دخل الإنسان عالما مدهشا غريبا على العقل البشري منذ أواسط القرن الماضي؛ عالما تسوده حُمى التسارع التقني، تَوّجته ثورة الاتصال خلال العقد الأخير من القرن العشرين. مما جلب تحديات جديدة بدتْ تواجه الفكر الإنساني الذي اعتاد على سير الفنون و الثقافات على منعرجات الحياة البطيئة في تشكل ألوانها، وافصاحها عن أسرار تفاعلاتها التي كانت تطمر غالبا في غياهب تاريخ ظل يفتقر إلى الموضوعية لمئات القرون !
وجد المجال الإبداعي في التقنيات الحديثة فرصة للتوسع والانفتاح على مشارب عديدة مختلفة، فأُخذ بنوع من النشوة أفقدته التوازن تحت تأثير موجة " الوسائط المتعددة" بما حملت من صور وأصوات وبما أتاحت من وسائل مهّّدت الطريق أمام انتشار سريع للإنتاج الإبداعي بكل أصنافه. وبدأنا نشهد تسارعا يلبس تداول المعلومات بين بني البشر، ويمد تأثيره في حياة الناس إلى مدى لايزال مجهول النتائج ... فقد أصبح الناس يبنون مجتمعا افتراضيا لايتطلب الانتماء إليه أكثر من تعلّم الضغط على زرّ تشغيل جهاز الحاسوب، وتحريك "الفأرة" على بساطها الناعم، بل تعدى اليسر إلى أبسط من ذلك ! وأشخاص هذا العالم أحرار في التعبير عن ذواتهم وآلامهم وآمالهم. يرتبطون بعلاقات قد ترقى إلى المستويات المبشرة بغد سعيد البشرية، وقد تتدنى إلى هوة لا قرار لها في مستنقع أبشع من أن يتصوره ذو عقل. بينما هناك في مكان ما من العالم الواقعي أصابع تكتسب كل يوم مهارة أدق في استغلال هذه الحركات التي يقوم بها سكان العالم الافتراضي حين تجوالهم في دروبه، يتصفحون وينقرون على "إيقونات" وصور متحركة تلعب على أوتار حسهم. وضمن هؤلاء، وجد المبدع متنفسا فسيحا للاتصال المباشر بالمتلقي – اللا منظور- الافتراضي فكتب ونشر وحاور وناقش القضايا التي فجّرت همومه وأنطقت أصابعه ووهبت خياله أجنحة أخف وأكبر، وهذبت فيه نزعة الجموح وعلمته كيف يسمع للنقاد وكيف يغترف من معارف غيره وصقلت موهبته لتجعل منه صورة الرسام والقاص والشاعر والموسيقي والمفكر الافتراضي. واقف هنا متسائلا :إن كان لكل فن رسالة، فماهي رسالة الفن الافتراضي الجديد ؟ هل تتمثل فقط في تحرير النص من مقص الرقابة ؟ أم تتجاوز كل الحدود لتشكّل فضاء ثقافيا يتيح لكل الناس متعة القراءة والاطلاع على الآخر وفهم العالم وفق منظور جديد؟ أم أنها فوضى تعم كل المجالات الإبداعية لتذهب برونق المتعة الفنية وتؤصل الإدمان على استهلاك الذات وتذويبها في زمن مدفوع الثمن؟
إنّ جلّ الانتاج الإبداعي في عالم الرقميات يقتصر على النصوص المقروءة والرسوم بحيث لا نجد إلا نادرا مقطوعة موسيقية، ولا نرى من النحت إلا صوراً لما يبدعه الفنانون الافتراضيون. لذا فسنوجه الاهتمام إلى النص المقروء. فالنص الرقمي يشكل رابطة افتراضية بين المبدع والقارئ بينما يكوّنُ كلاهما صورة ذهنية للآخر تتفاوت في الوضح تبعا للمداومة على التواجد على الشبكة، وتبعا لحركية الظهور بالموقع الذي ينشر عليه النص. فنرى أن هذه العلاقة قد تنشأ بين مجموعة من الأشخاص وتأخذ في الرسوخ حتى تكون جيدة، تتمحور حول مركز الاهتمام المشترك بين أفراد المجموعة؛ ويتزايد نشاط ما نسميه بالتفاعل إلى حدّ يثمر ما قد يستفيد منه كل رواد المنتدى أو الموقع، وقد تنشأ صورة من التكافل وتظافر الجهود للوصل إلى تحقيق هدف ما – وهذا أجود ما ينتظر من رواد المنتديات الثقافية – إلا أن هذه الطفرة ما تلبث أن تخبو شعلتها وتتبخر في عالم لا محدود من العوامل التي قد يمكن تقسيمها إلى مايتعلق بالنص أو الرسالة "Le message"وما يتعلق بالشبكة كمحيط "l'internet" ثم عوامل تخص المتلقي "l'internaute" .
1 – عوامل الرسالة النص "Le message":
أقصد بالرسالة هنا خلاصة ذلك الإبداع المعروض على أنظار المتلقين المنتشرين على سطح الأرض الذي تغطيه شبكة المعلومات. وهو نتيجة جهد مبذول يحمل صورا ذهنية ودلالات في لغة مفهومة لعدد من القراء بدرجات متفاوتة، حسب مستوياتهم التعليمية والثقافية ومعتقداتهم. يُعرَض النص على الشبكة مثلما تُرمى لؤلؤة في عرض المحيط لكن هذه اللؤلؤة تحمل رقما أو عنوانا تتداوله محركات البحث ليسهل العثور عليها متى تم استدعاءها بذلك العنوان الرقمي! إذن فالنص المعروض ليس الوحيد على الشبكة، وهو يعوم وسط سيل متعاظم من النصوص في ذات اللغة المكتوب بها... ونتبجة لعمليات التصنيف والترتيب الرقمي – الذي يتم بشكل آلي – يدخل في بحر من التشويش المنبعث من رقمية الحرف؛ وحتى أخرج بك من الغموض الذي بدأ يكتنف هذه الفقرة أدعوك لتصور شخص جلس قبالة الحاسوب الآن وفتح صفحة ما. نحن الآن أمام احتمالين : إما أن يكون صاحبنا يعرف موقع النص على الشبكة، وليست هناك مشكلة إن كان الموقع موجودا فعلا بالصيغة التي يطبعها في خانة العنوان، وسيجد المتصفح النص المطلوب. وإما أن يكون الشخص في وضع الباحث عن كلمة أو جملة وردت في عنوان النص؛ وهنا سيلجأ لمحرك البحث ليطبع الكلمة أو الجملة المقصودة. وبمجرد ظهور نتيجة البحث سيجد صاحبنا نفسه أمام آلاف الصفحات التي تتعذر قراءت عناوينها كلها في مدة زمنية معينة ! فالنص الذي يتضمن الجملة موجود ولكن أين بالضبط؟ هنا تتدخل عملية الاحتمالات لجذب اهتمام المتصفحين نحو ما لم يكونوا يقصدون. وهذا ما يمثل التشويش الذي يعاني منه النص الإبداعي كأحد العوامل التي تعوق وصول الرسالة الإبداعية إلى عموم القراء. إلا أن لدى المتمرسين من رواد الشبكة وسائل تقنية تمكنهم من تفادي التشويش الناتج عن رقمية الحرف.
ولننظر من زاوية المبدع الذي يدخل النص رقانة لينشره – في حالة الكتابة الرقمية المباشرة-، هذه العملية محفوفة بأسباب الأخطاء التي قلّما ينتبه المبدع لحدوثها، نتيجة الحالة النفسية والمحيط الذي يكتنف عملية الرقانة، ومدى مهارة من يقوم بإدخال النص في المساحة المعدّة لذلك مما ينتج عنه ارتباك الصور الإبداعية التي تظهر مزيجا من الضغوط وتذبذب سرعات التنقل بين دروب ومساحات المعاني. أما إن كان النص يكتب على ورق قبل تحويله إلى نص رقمي فتكون الأخطاء أقلّ؛ مما يحدو بالكثير من الأدباء لاتباع هذا الأسلوب، حيث نجد النص يحمل الطابع الأدبي المشعّ إبداعا، والمعبّر في لغة سلسة وسليمة عن شخصية المبدع مبرزا إمكانياته الإبداعية في أجمل الصور.
يبقى أن نحاول تقدير مكانة النص الرقمي من حيث تضمّنه للدهشة والمتعة لدى المتلقي الافتراضي، فالنص الإبداعي الرقمي لا يقل دهشة عن النص الورقي بل قد يفوقه متعة، لكن المتلقي الذي يعي قيمة الوقت – المادية- يكون في حالة من الاستعجال وهو يقرأ العناوين والفقرات وكأنما يريد أن يلمّ بزبدة الموضوع في أقصر وقت ممكن وهذا عامل يبهت في النّص إيقاع الصور الذهنية المقصود رسمها لدى عموم المتلقين.
2 - عوامل الشبكة "L'internet" :
من أهم ما تؤثر به الشبكة على النص الإبداعي كون تصينفها للنصوص آليا لايتعرف على العنوان المطلوب إلا باستخدام تقنيات تتطلب من الملتقي معرفتها والإلمام بها وهي تشكّل بالتدريج قاموسا لغويا غدا يتضاعف محتواه كل يوم؛ فلو طلبت في محرك البحث العنوان التالي:«نظرة في خبايا تاريخ العملة» ستكون النتيجة عددا هائلا من الصفحات منها ما يظهر العنوان في الصفحات العشر الأولى هكذا:« ....نلقي نظرة في تاريخ العملة الأوروبية » ويأتي بعدها عدد من الصفحات يضم المقطع «..نظرة في تاريخ» ثم يأتي بـ«نلقي نظرة ...» وهكذا تكثر العناوين فتجذب اهتمام المتصفح لدرجة قد تدخله في دروب طويلة من المحاولات تستغرق معظم وقت التصفح وقد لا يجد الموضوع الذي كان يبحث عنه... على المتلقي إذاً أن يحدِّث معلوماته الحاسوبية باستمرار لمسايرة الركب الرقمي فيدخل "نظرة في خبايا تاريخ العملة" إن أراد أن يظهر له المتصفح بدقة الصفحات التي تحتوي فقط على الجملة الموجودة بين الرمزين:"....." عندها ستكون النتيجة عدد قليلا من الصفحات يمكنه التنقل بينها وقراءة النص. إلا أن عامل المتاهة يصبح أقل ضررا إلى جانب الصفيحات الدعائية الطفيلية المزعجة بصورها الوامضة ونصوصها المتحركة.
--- يتبع ---
///// منقـــــــــــ ل ــــو /////