الفاضل مصطفى حمزة،
انثالت الخواطر في بالي وأنا أقرأ، فواعجبا لمن تقرأ كتابا فلا يكاد يشعل فيها الرغبة لخط حرف، وتقرأ أسطرا فتكاد تتفلت الخواطر من بين يديها لكثرتها وتتابعها، اعذر تطفلي على منثورك، لكنك لامست بابا كنت أقف عنده منذ حين، أقرأ فيه وأود لو أكتب عنه، هكذا جاءت كلماتي التالية وليدة النص والتعليق، والحق أن تنسب لمنبعها وأن تتدفق منه ومعه.
https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?t=74632
"" ليس ببعيد عن شعورك هذا شعور امرأة تقرأ لرجل أناته على أعتابها وتوسلاته في محرابها، فهو صريع لفتة عين وأسير رفة رمش، وهو يسير بين الناس لكن قلبه وروحه واقفان أبدا تحت شرفاتها ينتظران، لعلها يوما تجود بايماءة ولو عفوا وفيها لهما كفاية. أين كل ما كتب ولا يزال يكتب من الصورة الاجتماعية والثقافية و النفسية للرجل في ذاكرة وروح هذه هذه المرأة؟ أين الحزم الدافئ والقوة الحامية والمعرفة المدبِّرة؟ وأين السند والظهر والعضد والدرع ممن يستسقي كلمة أو نظرة؟ ""
قالت: آن لنا أن ننسى أسطورة الفارس على الحصان الأبيض، ذاك الذي سيغير وجه الدنيا ويغير حياتك، فيما يكون كل دورك أن تنتظريه ليخطفك على حصانك، ثم تعيشي في ذاك العالم الأفضل الذي بناه لخاطر عينيك! كوني أنتِ فارسك ولتكن همتك هي جوادك المسحور، وليكن هو جزءا من الحكاية إن وجد، فإن لم يوجد لم تكن الحكاية هباء!
ما أعتقده، هو أن الإنسان رجلا كان أو امرأة بحاجة إلى شريك يعتمد عليه، يتخفف بين يديه من همه، ويجد عنده المشورة والموعظة، يكون أمينا على قلبه وروحه وأسراره وعيوبه. فطرة الإنسان أن يسير ولا يقف، وأن يختار دروبا يسلكها وحكايات يعيشها، وفطرته أن يسلك الدرب اثنان أو أكثر وأن ينسج الحكاية اثنان أو أكثر. هل هنالك من هو مستغن بنفسه عن سواه؟ أؤكد لك أن كثرا يظنون ذلك بأنفسهم، لكنهم مخطئون، وغالبا ما يكون أصحاب هذا الظن مقتاتين على حيوات غيرهم يبنون أمجادهم على أنقاض أمجاد أناس من حولهم لم يدعوا لهم فرصة لبناء أي شيء على الإطلاق وهم يقنعون أنفسهم بأنهم وحدهم أصحاب الإنجاز والعمل وأن من حولهم همل!!
والناس قد تختل طبائعهم، وقد يجانبون الصواب، وقد يعيشون عمرهم كله يضربون في الاتجاه المعاكس له، لكن الأنبياء هم نموذج للفطرة السليمة والطبائع السوية، وهم من يمكننا أن نستلهم من حياتهم وسلوكهم الصواب والحق. آدم عليه السلام منحه الله شريكته وهو يحيا في الجنان! موسى عليه السلام كان طلبه الأول أن يكون معه أخوه نبيا! واستعرض قصص الأنبياء جميعا تجدهم نصروا بصحب وحواريين، ليختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي هيأ الله له أصحابا على طول الدرب ومن اللحظة الأولى، وكم أشاد ببذلهم! وكم امتدح تضحياتهم وعطاءهم! يكفي الحب العظيم الذي ظل حيا في قلبه طوال حياته صلى الله عليه وسلم للسيدة العظيمة خديجة رضي الله عنها ممزوجا بالثناء على فضائلها والاعتراف بأياديها البيضاء على الإسلام بل وعليه صلى الله عليه وسلم، فمن مثله في الوفاء!
حسنٌ، ثم ماذا؟ فكرة حاجة المرء إلى قلب تتناغم نبضاته مع نبضاته ليست دلالا ولا ضعفا ولا مذمة. وأزعم أن ذلك ليس يقتصر على التناغم بين رجل وامرأة، فقد يكون الصاحبان على دروب الحياة رجلان أو امرأتين: فللصداقة والأخوة قوة هائلة يعرفها من عطرت حياته بها. لكنني أتناول جانبا فحسب من الصورة: ""والمرأة ما خُلقتْ إلاّ لتمسحَ الدموع عن الخدود الباكية ، وتسكبَ الفرحَ في القلوب الحزينة ، وترفع عن الجروح أوجاعها ! وترويَ بالحبّ القلوبَ الظامئة للحب والحنان !"". إن المرأة مفطورة على العطاء، خاصة العطاء النفسي والروحي، وحتى لو رزقت شريكا يعدها هامشا في حياته، وحتى لو لم تحقق تناغما قلبيا يروي قلبها ويرضي روحها، ستجدها منبعا للنور والرضى في حياة أناس من حولها وإن كانت مكسورة القلب والخاطر. المأزق الحقيقي ليس في انطفاء الشعلة، لكن في الشعلة ذاتها، فإن حظيت بمن يرضيها التناغم معه روحيا ستجدها شعلة دافئة متجددة يمتزج نورها بعبير السعادة والرضا، وإلا فإنها ستبقى تلك الشعلة، لكنها حرفيا ستحترق وتبذل من ذاتها لتنير دروب من حولها. وقل لي بالله عليك أي حكمة أجمل من حكمة الإسلام حين أحاط قبس النور ذاك بقدسية من قدسيته فلم يتركه نهبا للعابثين واللاهين، وجعل الزواج سكنا ومودة ورحمة، أي ملجأ وسندا وتناغما وواحة للنفس من هجير الحياة. لكن ماذا عساه يفعل لمن لا يدرك من أتباعه مراميه، فهو يرتبط ارتباط شرعيا لكنه ليس يحاول أن يبصر تلك الواحة على مرمى بصره فتجده يعرض عنها ويضرب في صحراء الدنيا فيعيش ولا يحيا، ويترك أهله في واد غير ذي زرع ولا بركة، فيتلحفون الصبر ويسايرون الحياة، ويعيشون كذلك ولا يحيون! عندها يقول لسان حال تلك التي نزلت في واحته على الميثاق الغليظ فلم تجد إلا هجران روحيا يحرقها ويذويها: ""أنا امرأةٌ من وجعٍ فلا تمطر ملحًا على أشلائي، حررني مني واروِ ظمأَ العمرِ الذي لم يأتِ بعدُ.. لا تجعلني أجلسُ على عتبةِ الانتظارِ طويلاً فتُظلَلني سحابةٌ سوداءُ تحجبُ نوركَ عني"" وهو داؤها ودواؤها ووجعها وترياقها، وهي تسعي في الأرض لكن روحها مثقلة لا تجد لترديدها رجعا ولا لأغانيها صدى.
في حقيقة الأمر، حزن ووجع النساء حين يوجد في مجتمعاتنا فهذا هو منشؤه وسره، أما كلام الأدباء ونثر يراع الكتاب، فقد يكون ظاهره يرتدي ثوب شكوى العاشق المهجور لسهولة هذا اللون على أقلامنا لكثرة ما قرأناه مذ نشأنا، وقد تكون حقيقةُ ما دفع الكاتب للكتابة أبعد ما يكون عما كتبه! ألوان النثر وألاعيبه لا تنتهي، والناثر الحق يكتب ما يشاء ويتركك تقرأ من نصه ما يشاء أيضا دون أن يطلعك على سره، مثله مثل رسام أسقمه المرض وأنهكه، فرسم عاصفة تحرق سنديانة عتيقة أو أمواجا تغرق مركبا محطما، ولم تضربه عاصفة ولا أغرقه موج.
في النهاية أنتهز الفرصة لأقول: إن الزواج والأخوة والصداقة كلها علاقات ليست نهرا ذا منبع ومصب، بل هي بذل وعطاء وصبر ومساندة من الطرفين، وإن النور المنبعث من كلا الطرفين مقصد لصاحبه وحاجة له ليس يستغني عنها بنوره الذاتي، هو التكامل الذي وضعه الله في نفوسنا لتنسجم، وإلا لعاش كل منا في جزيرته ولانطفأت الحياة في الدنيا من زمن بعيد. و إن الحياة ليست مسكنا ومأكلا فحسب، ومن يرى أنه أكبر من أن يفتح أسوار مدائنه ليضمها إلى مدائن زوجه، وأن وقته أثمن من أن يجعل لها منه نصيبا يصل بينهما، وأن عقله أرفع مقاما من أن يمد جسور التفاهم مع عقلها وروحها، فليسد إليها معروفا ويرتحل عن مدائنها قبل أن تجدب بسَمُوم تجاهله.
موضوع كهذا يحتاج دراسة هادئة ومقالا رصينا وتفكيرا عميقا قبل أن ينشر فيه شيء بهذه العجالة، لكن الحروف غالبتني وغلبتني... فاعذروا القصور والتقصير!