كنتُ أظن أن تقطير شواغلِ ودواخل النفس كلماتٍ ترسمُ لوحاتٍ استنزافٌ للمرء، وكنت حين أكتب الكلمة الأخيرة أعلم أنها الأخيرة من تنهيدةٍ تباغتُني واسترخاءٍ وفتورٍ يغلبانني. الآن أدرك أن الأكثرَ صعوبةً وأشدَ إنهاكاً للنفس هو عجزها عن الكتابة، هو احتباسُ الخواطرِ في مدائنِ الروح خاطرةً إثر خاطرة، ودوامةَ رمالٍ إثر دوامة، حتى ليخيل للناظر إليها جميعا أن عاصفةً صحراوية تجتاحها، وأن المدائنَ تجثو مشلولةً عاجزة أمام عصفٍ باردِ الأعصابِ قاتلٍ يحيلُها من خمائلٍ وربيعٍ إلى لونٍ قاحل وحيدٍ ليس فيه من معالم الحياة شيء.
خلو الفكرِ من الكلماتِ حتى كأنهُ فراغٌ ليست فيه نأمةُ حياةٍ يقلق النفس، لكن احتشادَ الخواطر والأفكار واحتدامَ صخبها وارتفاعَ ضجيجها يصيب المرء بالجنون ويشل العقل تماما! يصبح الأمر أشبه بمن التهمه البحرُ بموجِه فهو يقلِّبُه يمينا وشمالا ويغمرُهُ بالهدير ويسابِقُ الهواء إلى رئتيه، حتى يهوي في لحظةٍ تنعدم فيها أحاسيسه، فيفقد إدراكه للاتجاهات والمكان والزمان ويفقد حتى حواسه، ليغدو في فقاعة هائلة من عدم الإدراكِ إلا للبرد والخوف... والفناء!
كثيراً ما يبدأُ الأمر كذلك: صفحةٌ بيضاء ناصعة من برنامج تحرير، وارتباكُ الكلماتِ الأولى!
الهاجس الذي يتملكني أمام الرغبة العارمة في كتابة شيء ما لست أدري ما هو وأمام هذه الصفحة البيضاء، هو: لماذا أريد أن أكتب؟ ولماذا أستجيب لهذه الرغبة؟ لماذا لا أتجاهلها فحسب؟ بعد دقائق أو ساعات ستتبعثر ولو بحثت عنها حينها فلن أجد لها أثرا! أي قيمة لكلمات كاتبها بنفسه ليس يعلم قبل أن تتناثر على الورق ماهي وعن أي شيء ستتحدث؟ أليس هذا عبثا!!
زوبعة التفكير هذه كثيرا ما تباغتني، ليبددها صوت النقر على اللوحة المفاتيح وهو يتسارع.. يتسارع.. ليصمت بغتة. ورغم أنني لطالما نويت أن أفكر بالأمر بجدية إلا أن هذه الزوبعة دائما ما تتوارى ما بين المشاغل لتباغتني فقط أمام الصفحة البيضاء ورغبة الكتابة.
لو أن أحدا شكاها إلي لكنت نصحته بتجاهلها فحسب، فنثر الحروف طالما كان لا يخالف ما شرع الله، ثم هو يحوى حينا فائدة ،وحينا بعضا من حديث النفس، وحينا نفثة مصدور أو آهة مهموم، وحينا فكرة أو خاطرة أو تساؤلا أو هما أو.... فلا شيء عليه. بل قد يكون فيه مواساة أو نفع أو راحة لأحدهم. لكن الزوبعة ليست تتوقف هاهنا، بل تتمدد ليصبح التساؤل: وهل كل ما يخطه المرء ينشر على الملأ؟ وبعبارة أدق: هل كله يستحق؟ غثه وسمينه؟ كلما سطرت عبارتين سارعت إلى إنشاء موضوع وعنونته وإطلاقه على شبكة صارت تلتقط من كل شيء كل شيء!! أوليس للنصوص بعض مقومات وشروط تقفين عندها؟
لم يعد ثم فرق بين الدفتر النائم تحت وسادتك تحشرين فيه عبارات واقتباسات وأفكارا هائمة وتساؤلات مبتورة، وبين صفحة يفترض أن يكون كل معروض عليها وجبة دسمة لا يخرج بعدها من دخلها كما دخل! تتنقلين ما بين المنثور، وتقرئين تقرئين، وصفحة في كتاب لأحد المتأنين السابقين الأولين خير من كل مانثرت وأعمق!
ولست أدري...
قد يتبع!