ΠΤΟΛΕΜΑΙΟΥ ΠΡΟΣ ΦΛΩΡΑΝ

"من بطليموس إلى فلورة"

(أ) الرسالة

1. مقدمة:

بين أيدينا رسالة كتبها بطليموس الغنوصي (؟ - 180 ميلادي) إلى امرأة مسيحية اسمها فلورة. وتعتبر هذه الرسالة المحررة باللغة اليونانية من أقدم نصوص المذهب الغنوصي التي تناهت إلينا في تلك اللغة. وكانت الكنيسة احتفظت برسالة بطليموس كما احتفظت بغيرها من نصوص المذهب الغنوصي لأنها، أي الكنيسة، كانت ترى في نشر نصوص الهراطقة وتفنيدها أنجع طريقة لمحاربتهم. [1]

والغنوصية [2] (Gnosticism) أو مذهب العرفان هو مذهب نشأ مع نشأة المسيحية في القرن الأول للميلاد وانتشر انتشاراً واسعاً في القرن الثاني. وضع أصول هذا المذهب الشاعر المصري فالانسيوس (الإسكندرية: 110 - 175) الذي كان يرى أن "المعرفة الروحانية" أهم من الإيمان بحد ذاته، وأنه لا سبيل إلى قراءة الكتب المقدسة عموماً وأسفار العهد القديم خصوصاً قراءة ظاهرية بل لا بد من تأويلها تأويلاً ميتافيزيقياً لفهمها، محاولاً في الوقت نفسه التوفيق بين تعاليم المسيح من جهة والفلسفات اليونانية والشرقية من جهة أخرى. فكان نقد الكتاب المقدس ورفض تفسيره تفسيراً حرفياً أهم أصل من أصول مذهبهم. ولعل إمعان الغنوصيين في نقد الكتاب المقدس هو الذي جعل الكنيسة تعتبرهم هراطقة. أما هم فكانوا يعتبرون أنفسهم مسيحيين على الصراط المستقيم لأن إيمانهم مبني على "العرفان" وبالتالي على اليقين. [3]

والحقيقة أن مشكلة كتاب العهد القديم الذي اعتمدته الكنيسة كانت من التعقيد بمكان جعل حتى آباء الكنيسة يضطربون تجاهها. والمشكل اللاهوتي العويص كان في محاولة التوفيق بين صورة الإله التي يقدمها كتاب العهد القديم، وصورة الإله التي تقدمها الأناجيل، وهذا باد بجلاء من محاولة قيام بطليموس بالتدليل على التضاد بين الصورتين معتمداً في ذلك على أماكن بعينها من كتب العهد القديم، مبرهناً بطريقته على أن الإله الذي أوحى بالتوراة أو ببعض منها إلى موسى هو غير الإله الآب الرحيم الذي بعث عيسى وأوحى [4] بالأناجيل إلى الرسل، أي إن إله اليهودية ليس هو هو إله المسيحية!

وزاد الجدل في كتاب العهد القديم، وتدخلت الكنيسة لتحكم بين الآراء، فأدى تدخلها في الجدل إلى نشوء آراء كثيرة أدت بدورها إلى تفرع المذهب الغنوصي إلى فرعين رئيسيين: فرع شرقي ومركزه الإسكندرية، وفرع غربي ومركزه رومة. وكان بطليموس من أتباع الفرع الغربي للمذهب، وتعتبر رسالته إلى فلورة، وهي سيدة مسيحية حاول فيها اجتذابها إلى مذهبه، من أقدم نصوص الفرع الغربي للمذهب الغنوصي المحفوظة باللغة اليونانية. [5]

لم تترجم هذه الرسالة المهمة إلى اللغة العربية بعد. من ثمة اهتمامي بها والترجمة التي أنشرها أدناه. وسأردف الترجمة بدراسة مقارنة في معتقد بطليموس في الإله الحق كما يراه هو وكما تراه التوراة موضوع رسالته المهمة إلى فلورة.

2. النص:

1.3. "اعلمي يا أختي الكريمة فلورة أن التوراة التي بشَّر بها موسى لم يفهمها معظم الناس على حقيقتها لأنهم لا يعرفون شيئاً يذكر عن المُشرِّع الحق ولا عن حدوده.
2. فهي عند قوم من عند الإله الآب، وعند قوم آخرين يعتقدون اعتقاداً مختلفاً عن الأول، هي من عند العدو، الشيطان الرجيم، تماماً مثلما ينسبون إليه [الشيطان] خلق العالم بزعمهم أنه الآب وأنه خالق كل شيء.
3. ويبدو جلياً أن الفريقين على ضلال لأنهما متناقضان في الرأي ولأنهما لم يوفقا إلى معرفة الحقيقة وفهمها؛
4. إن التوراة ـ نظراً لعدم أهميتها ـ ليست من عند الإله الآب. فهي من جهة ناقصة وتحتاج إلى تكميل، وتحتوي من جهة أخرى على حدود لا تنسجم مع طبيعة الإله الآب وحقيقته.
5. أما الرأي الآخر فهو غير مقبول أيضاً، إذ لا يعقل أن يكون مصدرُ التوراة العدوَّ البغيضَ [= الشيطان] لأنها لا تبيح الظلم. وهذا رأي يعتقده هؤلاء الذين لا يستطيعون ـ وفقاً لكلام المخلص ـ أن يروا ببصيرتهم "أن المدينة المنقسمة على نفسها لا يمكن لها أن تعيش"، كما يقول مخلصنا. [6]
6. وفي تضاعيف ذلك يقول الرسول في مسألة الخلق إن ذلك [الخلقَ] خلقُه وإن "كُلٌّ به كُوِّنَ وبغيره لم يُكَوَّن شيء مما كُوِّن" [7] ـ بهذا يفند [الرسولُ يوحنا] حكمة الكذابين الضالة. ليس [خلقُ العالم] خلقَ الإله الشِّرِّير والمُرعِب، بل خلق [إله] عادل يبغض الشر. إن هذا رأي الجهلة الذين لا يأخذون بأسباب عناية الخالق، المصابين بعمى البصر والبصيرة معاً.
7. يبدو مما سبق أن الفريقين لم يوفقا إلى معرفة الحقيقة. ولقد فهم كلٌ منهما الأمر على طريقته، فالفريق لأول [فهمه هكذا] لأنه لا يعرف إله العدل، والفريق الثاني لأنه لا يعرف الإله الآب، وهو الإله الحق!
8. بقي لنا، نحن الذي وفقنا إلى معرفة [الإلهين] الاثنين ... أن نبين لك ماهية الشريعة [= التوراة] وماهية المشرع والجهة التي أوحت بها! ونريد في هذا المجال أن نبرهن لك على ذلك من خلال كلمات مخلصنا، وهي الكلمات التي تكفينا مؤونة اللجوء إلى مفهوم الكائنات. [8]
1.4. يجب أن تعلمي قبل كل شيء أن الشريعة الموجودة في كتب موسى الخمسة ليست من عند إله واحد! أعني أن هذه الشريعة ليست كلها واردة من عند إله واحد، لأن فيها حدوداً أضافها الناس إليها. وتعلمنا كلمات المخلص أن هذه الشريعة ذات ثلاثة مصادر.
2. فالمصدر الأول هو الله وشرعه، والثاني هو موسى ـ ليس بصفته نبياً يوحى إليه، بل بصفته إنساناً أضاف إلى الشريعة [الموحاة إليه] حدوداً من عندياته ـ، والثالث هو أحبار الأمة الذين ارتأوا إضافة حدود بعينها إلى الشريعة [الموحاة]
3. أما كيف يمكن لنا أن نبرهن على ذلك من خلال كلمات المخلص، فهو ما سوف تتعلمينه الآن!
4. تحدث المخلص ذات مرة مع أولئك الذين سألوه عن الطلاق المسموح به [في شريعة التوراة]، وقال: "إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ولم يكن من البدء هكذا"، "لأن الله"، حسب المخلص، "جمع بين الزوجين، وما جمعه الله فلا يفرقه إنسان". [9]
5. يبدو من ذلك أن شرع الله، الذي يحرم انفصال الزوج عن الزوجة، ليس هو شريعة موسى، التي تبيح الطلاق بين الزوجين، بسبب "عنت القلوب".
6. وهكذا أعلن موسى شريعة متناقضة مع شرع الله، لأن "الطلاق" ضد "عدم الطلاق"!
وإذا حاولنا فهم السبب الذي جعل موسى يقوم بذلك، اكتشفنا أنه لم يفعل ذلك بمحض إرادته هو، بل نتيجة للضرورة التي أملاها عليه ضعفُ أولئك الناس المعنيين بتلك الشريعة [= اليهود] ...
7. ... لأنه لم يكن بمقدورهم تحقيق إرادة الله بتحريم الطلاق، وهي الإرادة التي اعترض عليها بعض الناس الذين كانوا يعيشون [أشقياء] مع أزواجهم، ولكي يتم تفادي المزيد من الشقاء ومن ثم الضلال ...
8. ... فإن موسى أراد أن يتفادى هذا الاعتراض وهذا الشقاء والضلال الناتجين عنه؛ لذلك أضاف حكماً ثانياً [= إباحة الطلاق] إلى الحكم الأول [= تحريم الطلاق] مستبدلاً بذلك شراً كبيراً بشرٍ أصغر منه هو إباحة الطلاق! وقد فعل موسى ذلك بمحض إرادته ...
9. ... لأنهم، عندما لم يكن بمقدورهم احترام الحكم الأول، احترموا الحكم الثاني وبذلك لم ينتهوا إلى الظلم والغضب المؤديَيْن إلى الضلال.
10. إن هذا هو رأيه الذي جعلنا نصنفه رجلاً أضاف إلى شرع الله حكماً مضاداً له! ولقد بينا بأن شريعة موسى مغايرة لشرع الله، وهذا أمر واضح غير قابل للجدل حتى وإن اقتصرنا في البرهنة عليه على هذه النقطة الواحدة فقط!
11. أما بالنسبة إلى وجود أحكام قام الأحبار بإضافتها إلى الشريعة [الموحاة]، فهذا واضح من قول المخلص: "أَكْرِمْ أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض [التي يعطيك الربُّ إلهُك]". [10]
12. ويضيف المخلص قائلاً: "لقد قلتَ [موسى]" لحكماء القوم: "من نعمة الله عليكم أنه بعثني إليكم لمساعدتكم؛ ولكنكم عطلتم شريعة الله من أجل سنن الأقدمين"! [11]
13. وهاهو إشعياء يصرخ: "إن هذا الشعب يكرمني بشفتيه وقلبه بعيد مني. إنما مخافته لي وصية بشر تعلموها". [12]
14. وبذلك نكون برهنا أن التوراة مكونة من ثلاثة أجزاء، لأننا نرى فيها شريعة موسى [نفسه]، والشريعة التي أضافها الأحبار، وشريعة الله! [13]
إن هذا التصنيف للتوراة، الذي برهنا عليه، قد أبان الحقيقة الكامنة فيها!
1.5. أما الجزء الإلهي من شريعة الله، فيُقسَّم بدوره إلى ثلاثة أجزاء: [أ] الشريعة الخالصة، التي لم تختلط بشر ـ والتي يصح تسميتها "بالشريعة الحقة" ـ والتي لم يأت المخلص من أجل حَلِّها بل من أجل إتمامها [14]، لأن ما أتمه المخلص منها لم يكن صادراً عن مصدر آخر لكنه أتمها لأنها كانت ناقصة. [15] [ب] الشريعة المختلطة بالشر والظلم، وهي الشريعة التي حَلَّها المخلص لأنها لا تنسجم مع طبيعته [اللاهوتية].
2. وأخيراً [ج] الشريعة الرمزية التي نشأت نتيجة للعالم الروحاني والغيبي. لقد حوَّل المخلص هذا الجزء من التوراة ونقله من العالم المادي الحسي إلى العالم الروحاني الغيبي. [16]
3. إن شريعة الله الخالصة الحقة، التي لم تمتزج بالشر والظلم، هي "الوصايا العشر"، التي أنزلت [على موسى] في لَوحَيْن لتحريم ما يجب على الإنسان تجنبه، والتحفيزِ على ما ينبغي على الإنسان فعله. مع ذلك احتاجت هذه الشريعة [الإلهية] إلى إتمام المخلص لها، لأنها لم تكن كاملة [17]!
4. إن الجزء الذي اختلط بالشر والظلم، هو تلك الشريعة التي تكافئ الخطيئة بالخطيئة! إنها تنص على مجازاة العين بالعين والسن بالسن، أي معاقبة القاتل بالقتل [18]. إذ يرتكب الذي يعاقب القاتل بالقتل خطيئة لا تقل ظلماً عن خطئية الفاعل الأول إذا تغير ترتيب [القتل]، لأن الفعل في الحالتين واحد! [19]
5. كان هذا الحد، ولا يزال، قصاصاً، لأنه سُنَّ بسبب ضعف هؤلاء، الذين أُنْزِلَتْ الشريعة من أجلهم، فارتكبوا بسَنِّهِ تجاوزاً بحق الشريعة الإلهية الخالصة. إنه حدٌّ لا ينسجم البتة مع طبيعة الإله الآب، ومع رحمته. [20]
6. ربما كان ذلك الحدُّ طبيعياً، وربما كان ضرورةً! لأن الذي لا يبيح القتل تطبيقاً لقوله "لا تَقتُلْ" [21]، يَسْتَنُّ ـ بإعطائه أمر قتل القاتل ـ شريعةً ثانيةَ، ويميز بين قَتلَيْن! بذلك أباح الذي حرَّمَ القتل لنفسه أن يصبح ضحية للضرورة! [22]
7. لذلك قام الابن [= المسيح]، الذي صدر عن [الإله] الآخر، بحلِّ هذا الجزء من الشريعة وذلك على الرغم من تسليمه بأن ذلك الحد [23] من عند الله، وذلك في الوقت الذي يحسب هذا الجزء مع الأجزاء التي تحسب من العهد القديم، خصوصاً عندما يقول: "من لم يكرم أباه أو أمه فليقتل قتلاً". [24]
8. أما الجزء الرمزي من الشريعة، والذي نشأ نتيجة للعالم الروحاني والغيبي، فهو الجزء الذي سُنَّ نتيجة لظروف وحالات معينة. وأعني بذلك الحدود المتعلقة بالقربان والختان والسبت والصوم والفصح والخبز الفطير وما أشبه ذلك من السنن. [25]
9. إن هذه السُّنَن رموزٌ تم تحويلها، بعد ظهور المخلص، تحويلاً؛ فأُلْغِيَتْ ظاهرياً، واحتُفِظَ بها روحانياً! بقيت الأسماء كما هي، ولكن المسميات تغيرت! [26]
10. أجل، أمرنا الله أمرنا بتقريب القرابين، ولكن ليس من خلال البهائم التي لا تعقل، وليس بحرق البخور، بل بواسطة الحمد الروحاني، والتمجيد، والشكر، وإيثار الآخرين والإحسان إليهم!
11. كما يريد الله منا أن نختتن، ولكن ليس بإزالة القُلْفَة عن الذكر ... بل بتطهير القلب بالروح. [27]
12. كما يريد بالسَّبْتِ منا أن نبتعد من كل الأعمال الشريرة!
13. أما بالصوم، فإن الله لا يريد منا أن نصوم صوماً جسدياً، بل يريد منا صوماً بالروح، أي الامتناع عن الشر وما إليه.
نعم، يصوم الناس عندنا صوماً جسدياً؛ وهذا الصوم مفيد للروح إذا أُعْمِلَ العقل في اتباعه، أي إذا لم يلتزم الناس به من أجل استفزاز الآخرين، أو من أجل العادة، أو إحياء لذكرى يوم ما، حتى وإن كان ذلك اليوم يستحق ذلك! [28]
14. نصوم نحن، في الوقت نفسه، [صوماً ظاهرياً] للتذكير بالصوم الحقيقي، لأن هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يصوموا [صوماً حقيقياً]، يستذكرون بالصوم الجسدي الظاهري، ذلك الصوم الحقيقي الذي نعنيه!
15. الأمر نفسه ينطبق على الفصح والخبز الفطير. لقد أبان القديس بولص ضرورة اعتبارهما صورةً روحانيةً بوضوح حين قال: "فإنه قد ذُبِحَ فِصحُنا، المسيحُ، لكي تصبحوا فطيراً [حلواً] بدون خمير"! ولا يقصد القديس بولص بالخمير "الفطير الحلو" [كما يفهمه اليهود]، بل يقصد الشر! [29]
1.6. إذاً: بذلك تصبح التوراة مكونة من ثلاثة أجزاء مختلفة، أحدها الجزء الذي أكمله المخلص، لأن قوله "لا تقتل، لا تَزنِ ... لا تشهد شهادة الزور" [30]، متضمن في قوله "لا تغضب ... لا تَشْتَهِ ... لا تَحْلِف"! [31]
2. وثانيها هو ذلك الجزء الذي نُسِخَ بأكمله، لأن "العين بالعين والسن بالسن" تتضمن الظلم وفعل الظلم ... لذلك نسخه المخلص وأحلَّ محله نقيضه!
3. لأن "النقيض" ينسخ نفسه بالتساوي: "أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر"! [32]
4. وآخرها هو الجزء الذي حُوِّلَ من العالم الجسماني الظاهري، إلى العالم الروحاني الباطني، صورةً رمزيةً للأشياء الغيبة الخاصة.
5. لأن الصور والرموز تدل على أشياء أخرى، فكانت لها وظيفتها الجيدة في غياب الحقيقة! وبما أن الحقيقة حاضرة الآن، فإنه ينبغي اتباع نور الحقيقة، لا الصور والرموز! [33]
6. لقد أبان رسلُ المسيح، وكذلك بولص الرسول، هذه الحقائق، وذلك بتفسيره [بولص] معاني الفصح والخبز الفطير تفسيراً مجازياً. من ثمة وصفه جزءَ الشريعة الذي امتزج بالظلم بقوله: "وأبطلَ [المسيحُ] ناموسَ الوصايا ..." [34]، وكذلك وصفه جزءَ الشريعة التي لم تمتزح بالظلم بقوله: "فالناموس إذن مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة"! [35]
1.7. ويمكن القول باختصار إني أبنتُ لك بما فيه الكفاية بأن الشريعة [التوراة] التي أضافها الناس أو التي أنزلها الله، مكونة من ثلاثة أجزاء مختلفة!
2. والسؤال المطروح الآن هو: من هو ذلك الإله، الذي أنزل تلك الشريعة؟! وأعتقد بأني أجبت على هذا السؤال في ما تقدم من برهنة، هذا إذا كنتِ أصغيتِ لما تقدم بالتمعن المطلوب!
3. لأنه، إذا لم تكن التوراة من عند الإله الحق، ولم تكن من عند الشيطان [كما يعتقد بعضهم] ـ وهو رأي فاسد ـ فإن النتيجة الحتمية هي أن التوراة من عند شخص ثالث يكون غير الاثنين [= الإله الحق والشيطان]!
4. إنه [= الشخص الثالث] هو خالق هذا العالم وكل ما فيه. هو إله مختلف على الاثنين المذكورين أعلاه [= الإله الحق والشيطان]! إنه إله يكون بين الاثنين، ويقيم في الوسط، لذلك أطلق عليه اسم "الوسط"!
5. فإذا كان الإله الحق إلهاً رحيماً عادلاً بطبعه ـ وهو إله رحيم عادل بطبعه ـ لأن المخلص كان يسمي الإلهَ الحقَّ الرحيمَ "أباه"، وهو الإله الذي أراه بنفسه ...؛ وإذا كان الإله ذو الطبيعة المتناقضة إلهاً شريراً وظالماً، فإن الإلهَ الموجودَ في الوسط، والذي ليس عادلاً ولا ظالماً، الإلهُ الذي يمكن إطلاق اسم "العدل" عليه، الإلهُ الذي يجازي الإحسان بقدره!
6. إن هذا الإله [الذي في الوسط] أَقَلُّ مرتبةً من الإله الحق الكامل، وعدلَه أقلُّ من عدل الإله الحق، لأنه حادث وليس بقديم! إن الإله الحق ـ الآب ـ قديمٌ، وكلُّ شيء يحتاج إليه، لأن كل شيء صدر عنه. وإنه [الإلهُ الحق]، كذلك، أكبر من العدو [الشيطان]، وأَقْوَمُ منه! إن للإله الحق ذاتٍ أخرى غير ذات الاثنَيْن الآخَرَيْن [الإله الذي في الوسط والشيطان]، وطبيعةً أخرى غير طبيعتهما!
7. إن ذات العدو ذات شريرة ومظلمة، لأنه مادي تعتريه التجزئة والقسمة! أما ذات الإله القديم، أبي الكون، فهي بقاءٌ سرمديٌّ، ونورٌ بسيط ومتحد، قائم بذاته. لقد صدر عن طبيعته قوّتان اِثنتان. أما صورته هو، فتبقى خيراً من سائر الصور!


************

(ب) مفهوم الإله عند بطليموس

1. تمهيد:

نلاحظ من خلال استقراء النص أن بطليموس يجتهد اجتهاداً كبيراً ليبرهن لفلورة المسيحية أن إله المسيحية الرحيم إله مختلف عن إله اليهودية الجبار! إن وسم إله المسيحية بالرحمة وإله اليهود بالجبروت أمر لاهوتي لفت أنظار آباء الكنيسة منذ بداية العهد المسيحي، فحاولوا التوفيق بين الصورتين المختلفتين للإله المعبود بحق ولم يقدروا، ذلك لأن الفرق بين صورة الإله المعبود بحق كما وردت في أسفار اليهود، وصورته كما وردت في الأناجيل وأعمال الرسل، كبير جداً. لذلك اعتبر آباء الكنيسة ما كان قبل مجيء المسيح "عهداً قديماً" وفسروه على أنه حلقة مهمة من سلسلة التاريخ الديني للانسانية قبل ظهور المسيحية ينبغي أخذها "على علاتها"، ذلك لأن "العهد الجديد" الذي بشَّر به المسيح ألغى "العهد القديم" برمته، وألغى "علاته" معه. وكانت هاتان الصورتان للإله المعبود بحق عند اليهود والنصارى تكونتا نتيجة للجدل الشديد بين اليهود والنصارى بداية العهد المسيحي. ويبدو هذا الجدل جلياً في الأناجيل عموماً، وفي رسائل القديس بولص خصوصاً، وكذلك في أعمال الكتاب المسيحيين الأوائل ومنها رسالة بطليموس التي بين أيدينا، وهو الجدل الذي جعل القديس بولص يلغي جميع الشرائع اليهودية، بما فيها شريعة الختان، والذي جعل بطليموس الغنوصي وغيره من كتاب المسيحية الأوائل يعتقدون بوجود إلهين اثنين مختلفين اختلافاً جذرياً عن بعضهما كما نرى في رسالة بطليموس إلى فلورة.

إذا نحن الآن إزاء إلهين اثنين، واحد رحيم والآخر حقود، فمن هما هذان الإلهان الاثنان؟ ومن منهما إله المسيحية الرحيم، ومن منهما إله اليهودية الجبار؟!

قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي التمييز جيداً بين أمرين اثنين الأول لغوي والآخر لاهوتي. ويتعلق الأمر اللغوي باشتقاق الأسماء الدالة على الإله التي استعملها كل من اليهود والنصارى من جهة، بينما يتعلق الأمر اللاهوتي بحقيقة الإله المعبود في الديانتين من جهة أخرى. والتمييز بين هذين الأمرين جد مهم كما سيتبين لنا لاحقا!

2. أسماء الإله المعبود عند اليهود والنصارى:

إن الأسماء التي استعملها اليهود والنصارى للدلالة على الإله المعبود بحق عندهم هي أسماء سامية لأن اللغات التي نزل الوحي فيها هي لغات سامية هي العبرية الآرامية (أسفار العهد القديم) والسريانية (الإنجيل/الأناجيل) والعربية (القرآن الكريم). والأسماء التي استعملها اليهود في أسفار العهد القديم هي /إِلُوهِيم/ ويهوه/ و/إِيل/ و/شَداي/. وأتوقف قبل النظر في هذه الأسماء عند اشتقاق /إلوهيم/ دون التعرض لمعنى الجذر الأصلي له لأنه غير معروف.

لكلمة "إله" في اللغات السامية جذران اثنان هما:

أ*) الجذر الأول: /أ ل ل/. ولقد ورد هذا الجذر في الأكادية: إِلُّم (ill-um)، وفي العبرية: אל (el)، والفينيقية والأوغاريتية: /إِلٌّّ/، والسريانية: ܐܠܐ (ellā). وفي العربية: /إلٌّ/ وهو الله سبحانه وتعالى. (انظر معنى إلٍّ في الآية الكريمة: لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذِمة (10:9)؛ وكذلك معنى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما تُلي عليه بعض من "وحي" مسيلمة الكذاب: "إن هذا لشيء ما جاء به من إلٍّ"). ويؤنث هذا اللفظ في السامية الأم على: /إِلَّـةٌ/ (illat-um)، وورد في البابلية /إِلْتُم/. ومن /إِلَّـةٌ/ السامية اسم الصنم "اللات" عند العرب. ومن الجدير بالذكر أن اسم مدينة "بابل" بالأكادية هو: /بابْ إِلّيم/ (Bāb Ill-īm) أي "باب الآلهة"، ولا علاقة له بخرافة "بلبلة الألسن" الواردة في التوراة. ويرد الاسم /إِلٌّ/ في العبرية كثيراً في أواخر الأسماء مثل اسماعيل وميكائيل وإسرائيل، وورد في العربية في أسماء مثل ياليل وشرحبيل.

ب*) الجذر الثاني: /إ ل ه/ (بإضافة الهاء). ولقد ورد هذا الجذر في العبرية: אלוה (eloah<elāh)، وانحراف اللفظ في العبرية مصدره انقلاب ألف المد قبل حروف الحلق إلى (oa)، وهذا اللفظ نادر الورود في التوراة بالمفرد وكثير الورود فيها بصيغة الجمع هكذا: אלהים (elōhīm)، إِلُوهِيم؛ وفي الآرامية القديمة: אלה (elāh)، وفي السريانية: ܐܠܗܐ (elāhā) "الإله"، والألف نهاية الكلمة للتعريف. العربية: /إله/، /إلاه/. [36]

إذاً نحن إزاء جذرين اثنين الأول ثنائي والآخر ثلاثي. وربما يكون الجذر الثنائي هو الأصل فأضيفت إليه الهاء كما أضافوها إلى الأم /أم/ – /أمه/ في سائر الساميات، ولكن الهاء لا تظهر فيها إلا في حالة الجمع ـ "أمهات". والنظريات السائدة لدى علماء الاشتقاق في الساميات هي أن معنى الجذر /إ ل ه/ الأصلي موجود في الجذر السامي /وله/ بمعناه في العربية، أو في الجذر السامي /أول/ بمعناه في العربية والأكادية [37]، أو في /أ ل ه/ العبري بمعنى "قوي"، أو في الفعل العربي /أَلِهَ/. [38]

وأما /إلوهيم/، هو أكثر الأسماء الدالة على الإله المعبود بحق عند اليهود وروداً، فقد ورد مجرداً من أداة التعريف (هـَ / ها) للعلمية:

1. אלהים = /إلوهيم/.

و/إلوهيم/ هو جمع لفظة: אלוה = /إِلُوَه/ "إله" في اللغة العبرية. انظر الآية الأولى من سفر التكوين:

בְּרֵאשִׁית בָּרָא אֱלהִים אֵת הַשָּׁמַיִם וְאֵת הָאָרֶץ.

النقحرة: بِرِيشِيتْ بَرَأ إِلُوهِيم إِتْ هاشَّمايْم وِإِتْ هاإِرِصْ.

الترجمة الحرفية: "1. في البدء بَرَأَ/خَلَقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ".

كما ورد في الآية الأولى من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين محلى بأداة التعريف التي تخرجه كلياً من العلمية ـ ولو مجازاً ـ لتؤكد على كونه صيغة جمعٍ عادية:

וַיְהִי, אַחַר הַדְּבָרִים הָאֵלֶּה וְהָאֱלהִים נִסָּה אֶת-אַבְרָהָם וַיֹּאמֶר אֵלָיו אַבְרָהָם וַיֹּאמֶר הִנֵּנִי.

النقحرة: 1. وَيْهِي أَحَر هادباريم هاإِلِّه وهاإلوهيم نِسَّى إِتْ أبراهام وَيُومِر إِلاو: أبراهام! وَيُومِر: هِنّني.

الترجمة الحرفية: "1. وكان بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم وقال له يا إبراهيم، فقال [إبراهيم]: لبيك".

الترجمة الحقيقية: وكان بعد هذه الأمور أن الآلهة امتحنوا إبراهيم وقالوا له يا إبراهيم، فقال [إبراهيم]: لبيك".

ونرى في هذه الآية أن الكلمة الدالة على الإله المعبود بحق في التوراة ـ وهي أكثر الكلمات وروداً في التوراة للدلالة عليه ـ قد وردت بصيغة الجمع، مرة علماً وأخرى جمعاً عادياً كما تبين من الآيتين أعلاه. وقد شكَّل ذلك منذ البداية مشكلة لاهوتية عويصة لعلماء التوراة من النصارى واليهود، ما تركوا معها حيلة إلا وحاولوها لتفسير هذه الظاهرة التي تنقض عقيدة التوحيد الموحاة من الأساس، ففسروا /إلوهيم/ على أنه "جمع جلالة" (pluralis majestatis)، لكن هذا التخريج لم يقنع أحداً لاستحالته من الناحية الدينية والمنطقية. وأعتقد ـ وهذا اجتهاد شخصي ـ أن التفسير المنطقي الوحيد لهذه المشكلة اللاهوتية العويصة يجب أن يُبحَث عنه في ارتداد بني إسرائيل إلى الشرك بعد عبادتهم العجل في سيناء، لأنهم كانوا على التوحيد على زمان النبي إبراهيم عليه السلام، واستمروا عليه حتى زمان النبي موسى عليه السلام، ثم ارتدوا في سيناء، ثم عادوا إلى التوحيد من جديد، وهذا كله موجود في التوراة التي بأيدينا اليوم (سفر الخروج). وبما أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام غير موجودة اليوم بنصها الأصلي، وأن نص التوراة الحالي تم تقنينه ـ بإجماع اليهود والنصارى ـ بعد السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، فإن شيئاً لا يحول دون الاعتقاد أن اليهود تشبعوا بالشرك في بلاد بابل وآشور إبان السبي البابلي، خصوصاً وأنهم كانوا ارتدوا إلى الشرك في حياة موسى عليه السلام، حينما كان على الطور في سيناء، فما الذي يمنع من ارتدادهم إلى الشرك بعد موته بألف عام؟! إن تشبعاً بالشرك كهذا الذي أراه وأعتقده هو الذي جعلهم يجمعون اسم الإله المعبود بحق عندهم على /إلوهيم/، إذ لا يعقل أن يُعتَقَد أن جمعاً كهذا كان على أيام كليم الله موسى عليه السلام. ومن الثابت قطعاً لا تخميناً أن النص العبري للتوراة كان في مرحلة ما إبان السبي البابلي يورد الأفعال التي كان جمعُ الإله على /إلوهيم/ يرد فاعلاً لها بصيغ الجمع مثل لغة "أكلوني البراغيث"، وأن الصفة في العبرية تتبع الموصوف في جميع حالاته (مثل العربية)، بحيث ينعت المفرد بالمفرد والجمع بالجمع. إلا أن التقنين الأول الذي أجري على نص العهد القديم في القرن الخامس قبل الميلاد استبدل باضطراد صيغة الجمع في الأفعال الواردة مع /إلوهيم/ بصيغة المفرد على أساس أن /إلوهيم/ لفظ مفرد، وجعل النعت الذي يجيء بعد /إلوهيم) مفرداً. ومن الجدير بالذكر أن نص العهد القديم خضع لتقنين ثان في نهاية القرن الأول بعد الميلاد وهو التقنين الذي أثبتت مخطوطات البحر الميت أنه تم نتيجة لظهور المسيحية التي فسرت زمان "العهد القديم" ـ وهو العهد الذي اصطفى الله فيه آل إسرائيل ـ على أنه عهد يمهد لظهور المسيح عليه السلام الذي بدأ بظهوره "عهداً جديداً" ألغى "العهد القديم" برمته! وعلى الرغم من تقنين أحبار اليهود نصَّ العهد القديم مرتين وأنهم في المرتين استبدلوا باضطراد صيغة الجمع في الأفعال الواردة مع /إلوهيم/ بصيغة المفرد على أساس أن /إلوهيم/ لفظ مفرد، وكذا النعت الذي يجيء بعد /إلوهيم/ وجعلوه مفرداً، فإنهم نسوا بعض الأفعال وكذلك بعض النعوت بصيغة الجمع لتبقى حتى يومنا هذا شاهدة على تناوب الأيدي على نصوص العهد القديم حذفاً وإضافةً وإقحاماً وتحويراً للفظ وذلك للحصول على معاني مختلفة تنسجم مع التغيرات الدينية والسياسية في تلك الأزمان (وأهمها ظهور المسيحية) كما سيتبين لنا من المثالين التاليين:

قال في سفر التكوين، الإصحاح العشرين، الآية الثالثة عشرة:

וַיְהִי כַּאֲשֶׁר הִתְעוּ אתִי, אֱלֹהִים מִבֵּית אָבִי, וָאמַר לָהּ, זֶה חַסְדֵּךְ אֲשֶׁר תַּעֲשִׂי עִמָּדִי: אֶל כָּל-הַמָּקוֹם אֲשֶׁר נָבוֹא שָׁמָּה, אִמְרִי-לִי אָחִי הוּא.

النقحرة: وَيْهِي كَأَشِر هِتْعوا أوتي إلُوهِيم [39] مِبَيْت أبي، وَأُومِر لَهْ زِه حَسْدِيك أَشِر تَعَسِي عِمَّدي: إِلْ كُلْ هَمَّقُوم أَشِر نَبُوء شَمَّه، إِمْري لي: أَخِي هُو.

الترجمة الحرفية: "13. وكان عندما أتاهوني الآلهة [40] من بيت أبي أن قلت لها: هذا معروفك الذي تصنعين إلي في كل مكان ندخله: قولي عني هو أخي".

فورد الفعل هِتْعوا (= أتاهوا) بصيغة الجمع لأن الفاعل هو إلوهيم جمع /إِلُوَه/ "إله"! ولو كان هذا جمع جلالة لما استبدلوا باضطراد صيغة الجمع في الأفعال الواردة مع /إلوهيم/ بصيغة المفرد على أساس أن /إلوهيم/ لفظ مفرد.

وقال في سفر تثنية الاشتراع، الإصحاح الخامس الآية الثانية والعشرين (الآية الرابعة والعشرون في ترجمة فنديك):

... כָל-בָּשָׂר אֲשֶׁר שָׁמַע קוֹל אֱלהִים חַיִּים ...

النقحرة: كُلْ بَسَر أَشِر شَمَع قُولْ إِلُوهِيم حَيِّيم ...

الترجمة الحرفية: "22. كل البشر الذين سمعوا قول الآلهة الحية ...".

فنعتت هذه الآية إِلُوهِيم بـ حَيِّيم وهذا الثاني جمع وهذا محال في "جمع الجلالة" لأن جمع الجلالة يكون مثل "نحن، السلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي" وليس "نحن السلاطين العظام صلاح الدين الأيوبي"! وليس بين جموع الجلالة المستعملة في اللغات الحامية السامية والهندية الأوربية لغة تبيح مثل ذلك.

2. יהוה = /يهوه/.

ورد اسم /يهوه/ اسمَ علم للإله المعبود بحق. ولأن لفظ /يهوه/ محرم على اليهود فإن أحداً لا يعرف كيف كان يلفظ، لذلك ينطق اليهود بدلاً عنه أثناء تلاوة التوراة بلفظين اثنين هما: השם = /هاشِّم/ أي "الاسم" أو אדני = /أدوناي/ أي "السيد، الرب". أما في أدبيات الكتاب المقدس فيشار إليه بـ Tetragrammaton من اليونانية Τετραγραμματον أي "الأحرف الأربعة". وأما نطق الاسم بـ جِهوفا (Jehovah)، فهو نطق يفترض أن /يهوه/ هو مضارع الفعل הוה = /هوى/ "كان" في العبرية، وهو الافتراض المبني بدوره على الآيتَيْن الثالثة عشرة والرابعة عشرة من سفر الخروج في التوراة وهما:

וַיֹּאמֶר מֹשֶׁה אֶל-הָאֱלֹהִים הִנֵּה אָנֹכִי בָא אֶל-בְּנֵי יִשְׂרָאֵל וְאָמַרְתִּי לָהֶם אֱלֹהֵי אֲבוֹתֵיכֶם שְׁלָחַנִי אֲלֵיכֶם; וְאָמְרוּ-לִי מַה-שְּׁמוֹ מָה אֹמַר אֲלֵהֶם. וַיֹּאמֶר אֱלֹהִים אֶל-מֹשֶׁה אֶהְיֶה אֲשֶׁר אֶהְיֶה; וַיֹּאמֶר כֹּה תֹאמַר לִבְנֵי יִשְׂרָאֵל אֶהְיֶה שְׁלָחַנִי אֲלֵיכֶם.

النقحرة: 13. وَيُومِر مُوشِه إِلْ ها إِلوهُيم هِنِّي أَنُوكِي با إِلْ بْنِي يِسْرائِيل وِأَمَرْتِ لاهِم إِلُوهِي أَبُوتِيكِم شِلاحْنِي أَلِيكِم وِأَمْروا لي ما شِمُو، ما أُومِر أَلِيهِم؟ 14. وَيُومِر إِلُوهِيم إِلْ مُوشِه إِهْيِهْ أَشِرْ إِهْيِهْ (ehyeh ašer ehyeh) كُهْ تُومَر لِبْنِي يِسْرائِيل: إِهْيِهْ شِلاحْنِي أَلِيكِم.

الترجمة الحرفية: "13. وقال موسى للإله هاأنذا الآن ذاهب لبني إسرائيل وقائل لهم إن إله أبيكم أرسلني إليكم. فإذا سألوني: ما اسمه، ماذا أقول لهم؟ 14. فقال الإله لموسى: [تقول لهم إن اسمي:] إِهْيِهْ أَشِرْ إِهْيِهْ. هكذا تقول لبني إسرائيل: إِهْيِهْ [أَشِرْ إِهْيِهْ] أرسلني إليكم".

3. אל = /إل/.

אל = /إل/ ويجمع على אֵלִים = /إِيلِيم/. انظر المزمور 29، الآية الأولى:

מִזְמוֹר לְדָוִד: הָבוּ לַיהוָה בְּנֵי אֵלִים הָבוּ לַיהוָה כָּבוֹד וָעז.

النقحرة: مِزْمُورْ لِدَوِيد: هَبوا ليهوه بْنِي إِيلِيم! هَبوا ليهوه كَبُود وعُز.

الترجمة الحرفية: "1. قَدِّمُوا لِيَهْوه، يا بَنِي الآلهة! قَدِّمُوا لِيَهْوَه مَجْدًا وَعِزًّا".

فالمزمور يخاطب المُخاطَبين هنا بـ "أبناء الآلهة" وليس بـ "أبناء الله" على المجاز في القول كما زعم مترجم العهد القديم إلى العربية [41]، ذلك لأن אֵלִים = /إِيلِيم/ هذه هي جمع אל = /إل/، وهذه الأخيرة تعني ـ حسب كل المعاجم العبرية والسامية ـ وببساطة "إله"، فيكون معنى בְּנֵי אֵלִים = /بْنِي إِيلِيم/ "أبناء الآلهة" وليس غير ذلك!

4. שַׁדַּי = /شَداي/.

ورد שַׁדַּי = /شَداي/ في أماكن كثيرة من العهد القديم منها الألاية الثالثة من الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين:

וְאֵל שַׁדַּי יְבָרֵךְ אתְךָ.

النقحرة: 3. وِإِلْ شَدايْ يِبارِكْ أوتْكَ ...

الترجمة الحرفية: "والإلهُ شَداي يُبارِكُكَ"!

وهذا يعني بوضوح لا يحتمل التأويل أن شداي اسم اله لأن النص يقول: "الإله شداي" مثلما نقول "الإله حداد" و"الإلهة عشتار" والإله جوبيتر" و"الإلهة أفروديت" ولا فرق. ولكن من يكون "الإله شَداي" هذا؟ لقد حار علماء التوراة بشأنه، فاعتبروه صفة غالبة وفسروه من الجذر العربي /شدد/ وقالوا بالتالي إن معناه "الإله الشديد/الجبار" ... إلا أن حقيقة هذا الإله الوثني يجب أن يبحث عنها لدى الأكاديين والبابليين والآشوريين الذين سَبَوا اليهود، لأن البابليين كانوا يعبدون إلاهاً اسمه /شَدُو/ وهو إله وثني أخذ اليهود عن البابليين عبادته زمان ردتهم مثلما عبدوا لفترة الإله الكنعاني الفينيقي /بعل/، مع فارق أن /شدو/ تهوَّد، بعكس /بعل/ الذي لم يكن بمقدور اليهود تهويده بسبب العداوة التي كانت بينهم وبين الفينيقيين الذين كانوا يعبدون الإله /بعل/.

أما مسيحيو الغرب فيستعملون God/Dieu/Theos في اللغات الجرمانية واللاتينية واليونانية للدلالة على الإله المعبود بحق عندهم وذلك بغض النظر عن الأصل العبري المستعمل في الكتاب المقدس (إل/إلوهيم/يهوه/شداي ...). وهذه الكلمات الثلاث ليست اسم علم للإله المعبود بحق نصارى الغرب، بل كلمات مجردة للدلالة عليه. ومع ذلك فلقد دأب مسيحيو الغرب الذين ترجموا العهد القديم إلى اللغات الأوربية على ترجمة كلمة /إلوهيم/ العبرية وغيرها من الكلمات الدالة على الإله المعبود بحق بـ God "الإله"، بينما ترجموا /يهوه/ بـ The Lord "الرب" وذلك في كل اللغات الأوربية. ودأبوا أيضاً على رسم هذه الكلمات بالحرف الكبير تمييزاً للإله المعبود بحق عندهم عن الأوثان، تماماً مثلما ميز العرب ذلك بإضافة الألف واللام إلى "إلاه" بعد حذف همزتها وتفخيم لامها. والفرق بين الطريقتين هو أن التمييز في العربية يكون نطقاً وكتابةً، أما في اللغات الأوربية فيكون كتابةً فقط إذ لا تمييز في اللفظ بين أحرف صغيرة وكبيرة.

3. حقيقة الإله المعبود في الملتين حسب بطليموس:

إذن نحن الآن إزاء ثلاثة آلهة: إله الحق والرحمة هو إله المسيحية، وإله الشر وهو الشيطان، وإله ثالث يكون بين إله الحق والرحمة من جهة، وإله الشر أو الشيطان الرجيم من جهة أخرى، لم يتشبع بالرحمة كلياً ولا بالشر كلياً، هو "إله العهد القديم"، إله اليهودية! إنه إله "لا عادل ولا ظالم" كما يقول بطليموس:

5.7. فإذا كان الإله الحق إلهاً رحيماً عادلاً بطبعه ـ وهو إله رحيم عادل بطبعه ـ لأن المخلص كان يسمي الإلهَ الحقَّ الرحيمَ "أباه"، وهو الإله الذي أراه بنفسه ...؛ وإذا كان الإله ذو الطبيعة المتناقضة إلهاً شريراً وظالماً، فإن الإلهَ الموجودَ في الوسط، والذي ليس عادلاً ولا ظالماً، الإلهُ الذي يمكن إطلاق اسم "العدل" عليه، الإلهُ الذي يجازي الإحسان بقدره!

وهذا الإله حادثٌ وليس قديماً مثل إله المسيحية:

6.7. إن هذا الإله [الذي في الوسط] أَقَلُّ مرتبةً من الإله الحق الكامل، وعدلَه أقلُّ من عدل الإله الحق، لأنه حادث وليس بقديم! إن الإله الحق ـ الآب ـ قديمٌ، وكلُّ شيء يحتاج إليه، لأن كل شيء صدر عنه. وإنه [الإلهُ الحق]، كذلك، أكبر من العدو [الشيطان]، وأَقْوَمُ منه! إن للإله الحق ذاتٍ أخرى غير ذات الاثنَيْن الآخَرَيْن [الإله الذي في الوسط والشيطان]، وطبيعةً أخرى غير طبيعتهما!

إن هذا الإله الثالث هو الذي أوحى بالتوراة إلى موسى:

3.7. لأنه، إذا لم تكن التوراة من عند الإله الحق، ولم تكن من عند الشيطان [كما يعتقد بعضهم] ـ وهو رأي فاسد ـ فإن النتيجة الحتمية هي أن التوراة من عند شخص ثالث يكون غير الاثنين [= الإله الحق والشيطان]!

لكنه لم يوح بكل التوراة إلى موسى، لأن للتوراة ثلاثة مصادر مختلفة:

1.4. يجب أن تعلمي قبل كل شيء أن الشريعة الموجودة في كتب موسى الخمسة ليست من عند إله واحد! أعني أن هذه الشريعة ليست كلها واردة من عند إله واحد، لأن فيها حدوداً أضافها الناس إليها. وتعلمنا كلمات المخلص أن هذه الشريعة ذات ثلاثة مصادر.
2. فالمصدر الأول هو الله وشرعه، والثاني هو موسى ـ ليس بصفته نبياً يوحى إليه، بل بصفته إنساناً أضاف إلى الشريعة [الموحاة إليه] حدوداً من عندياته ـ، والثالث هو أحبار الأمة الذين ارتأوا إضافة حدود بعينها إلى الشريعة [الموحاة]

وبهذا يبدو جلياً أن بطليموس يعتبر كل ما يتوافق في العهد مع تعاليم المسيح في الأناجيل من عند الإله الحق، إله الرحمة الذي بعث المسيح. أما شريعة التوراة التي تتعارض مع تعاليم المسيح في الأناجيل، مثل الطلاق مثلاً، فيعتبرها بطليموس إضافات أضافها موسى إلى التوراة لاسترضاء قومه:

4. تحدث المخلص ذات مرة مع أولئك الذين سألوه عن الطلاق المسموح به [في شريعة التوراة]، وقال: "إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ولم يكن من البدء هكذا"، "لأن الله"، حسب المخلص، "جمع بين الزوجين، وما جمعه الله فلا يفرقه إنسان". [42]

أما المصدر الثالث والأخير لشريعة التوراة فهو إضافات الأحبار إلى الشريعة:

11. أما بالنسبة إلى وجود أحكام قام الأحبار بإضافتها إلى الشريعة [الموحاة]، فهذا واضح من قول المخلص: "أَكْرِمْ أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض [التي يعطيك الربُّ إلهُك]"

لكن بطليموس يميز جيداً بين إلهين اثنين هما الإله الأعلى، إله الرحمة، "إله العهد الجديد" الذي بعث عيسى، و"إله العهد القديم" الذي بعث موسى بالشريعة التي أضاف إليها موسى من عندياته، ثم الأحبار من عندياتهم، كما ورد أعلاه. وما يهم بطليموس من التوراة هو الجزء الإلهي، الجزء الحقيقي، الذي أوحى به "إله العهد القديم" لموسى. وتتمثل مهمة المسيح ـ عند بطليموس ـ بالحفاظ على الجزء الإلهي وإكماله لأنه كان ناقصاً، من جهة، وحل الجزئين المتكونين من إضافات موسى والأحبار، الممزوجين بالشر، من جهة أخرى:

أما الجزء الإلهي من شريعة الله، فيُقسَّم بدوره إلى ثلاثة أجزاء: [أ] الشريعة الخالصة، التي لم تختلط بشر ـ والتي يصح تسميتها "بالشريعة الحقة" ـ والتي لم يأت المخلص من أجل حَلِّها بل من أجل إتمامها، لأن ما أتمه المخلص منها لم يكن صادراً عن مصدر آخر لكنه أتمها لأنها كانت ناقصة. [ب] الشريعة المختلطة بالشر والظلم، وهي الشريعة التي حَلَّها المخلص لأنها لا تنسجم مع طبيعته [اللاهوتية].
2. وأخيراً [ج] الشريعة الرمزية التي نشأت نتيجة للعالم الروحاني والغيبي. لقد حوَّل المخلص هذا الجزء من التوراة ونقله من العالم المادي الحسي إلى العالم الروحاني الغيبي.

والجزء الإلهي الحقيقي في التوراة، هو الوصايا العشر فقط! مع ذلك يحتاج هذا الجزء إلى إكمال له لأنه ناقص:

3. إن شريعة الله الخالصة الحقة، التي لم تمتزج بالشر والظلم، هي "الوصايا العشر"، التي أنزلت [على موسى] في لَوحَيْن لتحريم ما يجب على الإنسان تجنبه، والتحفيزِ على ما ينبغي على الإنسان فعله. مع ذلك احتاجت هذه الشريعة [الإلهية] إلى إتمام المخلص لها، لأنها لم تكن كاملة!

أما سائر التوراة فهي شريعة "امتزجت بالشر والظلم" لا بد من نسخها:

4. إن الجزء الذي اختلط بالشر والظلم، هو تلك الشريعة التي تكافئ الخطيئة بالخطيئة! إنها تنص على مجازاة العين بالعين والسن بالسن، أي معاقبة القاتل بالقتل. إذ يرتكب الذي يعاقب القاتل بالقتل خطيئة لا تقل ظلماً عن خطئية الفاعل الأول إذا تغير ترتيب [القتل]، لأن الفعل في الحالتين واحد!
5. كان هذا الحد، ولا يزال، قصاصاً، لأنه سُنَّ بسبب ضعف هؤلاء، الذين أُنْزِلَتْ الشريعة من أجلهم، فارتكبوا بسَنِّهِ تجاوزاً بحق الشريعة الإلهية الخالصة. إنه حدٌّ لا ينسجم البتة مع طبيعة الإله الآب، ومع رحمته.

فلذلك نسخها المسيح:

7. لذلك قام الابن [= المسيح]، الذي صدر عن [الإله] الآخر، بحلِّ هذا الجزء من الشريعة وذلك على الرغم من تسليمه بأن ذلك الحد [23] من عند الله، وذلك في الوقت الذي يحسب هذا الجزء مع الأجزاء التي تحسب من العهد القديم، خصوصاً عندما يقول: "من لم يكرم أباه أو أمه فليقتل قتلاً".

يبدو من هذا كله أن بطليموس يوفق بين شريعة العهد القديم وتعاليم العهد الجديد باعتبار كل ما ورد في العهد القديم مناقضاً لتعاليم المسيح في العهد القديم شريعة "ناقصة" صادرة عن إله "ناقص" موجهة إلى شعب متعنت عنتاً اضطر موسى معه إلى إضافة أحكام جديدة إلى الشريعة لاسترضائهم ... كما يبدو أيضاً أن بطليموس يسلم بواقعة قيام الأحبار بإضافة أحكام ونصوص جديدة إلى التوراة التي أصبحت من حينه ثلاثية المصدر. وبذلك يسلم بطليموس ـ الذي تعبر رسالته عن اتجاه لاهوتي سائد في عصره ـ بالتحريف الذي تعرضت له التوراة، إلا أنه يفسره ـ يصفته غنوصياً متشبعاً بالفلسفة اليونانية ـ من خلال فلسفته العرفانية التي تسلم بوجود أكثر من إله واحد. فهو من جهة يسلم بوجود إله قديم رحيم هو إله عيسى، ويعتقد من جهة أخرى بوجود إله أقل قيمة من الإله الأول، ينسب إليه خلق العالم وإنزال الشريعة على موسى، ويعتبره حادثاً ليس قديماً قدم الإله الأول! إن الإله الأول إله كامل قائم بذاته، وإن الآخر ناقص وشريعته ناقصة مثله تحتاج إلى إكمال يقوم به المخلص الذي صدر عن الإله الأول. فجاء هذا المخلص، وهو المسيح عيسى، وأكمل الشريعة كما يلي: حافظ على الجزء الحقيقي منها، ونسخ الجزأين اللذين أضافهما موسى والأحبار إليها ناسخاًً أحكامهما بأحكام أكثر انسجاماً مع طبيعة إله الرحمة القديم. وبذلك يسلم بطليموس بالنسخ كما يعتقده المسلمون/ مع فارق كبير في المعتقدات المنسوخة!

ـــــــــــــــــ