رحيل الشمس


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

عندما يلتحف الكون بعباءة الليل المخملية ، متقلدا ضياء القمر تاجا له ، تلقي جسدها على فراشها البسيط لتناجي القمر وتلهو بنجومه الصغار ، إلى أن يغلب النعاس عينيها ، فتنام ملئ جفونها ، وتصحو مع إطلالة الندى العلوي . .......

وهكذا تبدو فجر كل يوم أرشق من سابقه وأنشط من أي وقت مضى ، تنفض جسدها الصغير قبل عصافير السماء ، ولا أدري سر هذه القوة السرمدية الكامنة في جسد إمرأة قد جاوزت الستين ! لأشعر كأنها تتحدى الشمس وتأبى ظهورها حتى تصافح قبلها بستانها العزيز . بستان أم ياسر بهذا الإسم يعرف ذلك البستان ، باسم المرأة التي أحبته حتى الجنون ، لتصبح أبجديتها مقتصرة على الدوران حوله ، وعلى ما يحويه من خيرات . " م ياسر " أرملة تقطن في قرية من قرى قلقيلية يحضنها بيت حجري قديم ، لا تفارقه إلا عند زيارة بستانها رفيق دربها الطويل . هي وادعة في كل شيء ، ولا تجيد الذهاب إلا إلى ذلك المكان ، كأنما ترى العالم فقط داخل البستان . ...


صوت الأذان هو المنبه عندها ،حتى إذا ما اقتربت الساعة على السادسة ، خرجت تتفقد أشجار الليمون ويالا روعة الإنسان حين يمشي صباحا وحول أذنيه وقع ألحان الطيور وقريبا من أنفه عبير الزهور ! وفي الظهيرة تعود أدراجها لترى جاراتها على شكل حلقة أمام عتبة البيت ، هكذا يفعلن كل يوم يتجمعن حول موقد إبريق الشاي ، فيرشفنه معها ويتبادلن الأحاديث .

لكن هذه المرة ، أختلف فيها اللقاء ، كن خائفات مترقبات كأنهن ينتظرن مصيبة كمبيرة أو دمارا فادحا .قالت أم ياسر بخوف وقلق : خيرا إن شاء الله ، ما الذي جرى يا أخوات ؟ هل مات عزيز ؟ ما الذي حصل ؟ فأجابتها " خضرة زوجة مختار البلد " : ومن أين يأتي الخير يا أختي ما دام الإحتلال في هذه الأرض ؟ أضافت فائزة " أم العبد " قائلة : ألا يكفي أن يمنعونا من قطف الزيتون وجني الحصاد في حينه .قالت سعاد حفيدة أم ياسر : أنا أعرف إلى ماذا يرمون فهم يريدون سلبنا هذه النعمة ، لتكون من نصيبهم وحدهم . عند ذلك ارتفع صوت أم ياسر وهي تقول : يا بنات إهدأن قليلا وأخبرنني ما الذي جرى ؟ قالت زوجة مختار البلد اسمعي يا أخية ، ما سمعناه في التلفاز عن قرار تعديل المسار كان كذبا ، ولن يتم أي شيء من هذا الكلام ، بل على العكس سيتابعون بناءه كما كان ، وهذا يعني أن جل أراضي أهل البلد ستضيع لا محالة .أم ياسر : ومن أين لك هذا الخبر ؟ قالت : لقد وصل لزوجي إنذار من قبل الحكومة الإسرائيلية لتستعد القرية لما سيحدث لها .....


وجمت أم ياسر هنيهة لتنساب في ذهنها ذكريات جميلة يوم كانت شابة يافعة ، وعروسا جميلة حيث ورثت بستانها عن والدها المتوفى ، وتذكرت كيف ساهمت مع زوجها في بناء بيتها ، وما ساهمت به في تزويج بناتها وذلك كله بفضل خيرات بستانها . وبحركة لا إرادية ودون وعي منها ، وضعت يدها على صدرها لتلامس قلادة ذهبية كانت من خير بستانها أيضا ......وهكذا انقضى ذلك النهار مشوبا بالحزن والألم والخوف من الغد القادم ...... .........وبعد أيام ..............


بدأت التعزيزات العسكرية تحاصر القرية من جميع جهاتها ، واقتربت الجرافات الصهيونية كثيرا من أراضي القرية ، أغلبها كان بجانب بستان أم ياسر في هذه اللحظة أيقنت تلك المرأة أن الموت قادم لا محالة فانطلقت تدق أبواب الجيران ، وتقرع كل باب تعرفه في القرية ليعلو صوتها الأجش هادرا وكأنه رصاص .....اخرجوا ...... لنبقى قربها ، اخرجوا لا يجوز أن نبقى هنا ، اخرجوا لنموت جميعا واقفين عليها .اخرجوا فلا يجب أن نبقى . وهكذا تجمع الأهالي حول أراضيهم وأمام جنود الإحتلال ، تمنعهم البنادق من الإقتراب أكثر . وكان جمع كبير من الناس يلتف حول بستانها بما أن الجيش هناك أكثر . وهي تقف بقامة لها تطاول عنان السماء ، وعينين بماء الدمع تحترقان ، وهي تحدق بشجر الليمون الذي يقتل أمام عينيها بلا هوادة ، وهي تلعثم قائلة : يا أيها الشيء الذي من قلبي وروحي تشيأ ، فصار ما أرى هيهات أن نتفرق هكذا .............


ومن خلفها مئات يتمتمون لكنهم عبثا يحاولون ، فأرضها باتت تعج بالحديد والإسمنت . وصوت الجرافات الإسرائيلية يصخب في المكان . ومرت الأيام ..... أصبح فيها الشجر الضارب في العمق يتكوم جثثا على الأرض ، بينما يعلو سور شاهق من الإسمنت مختوم بالأسلاك الشائكة يقصل الأرض نصفين .بهذا الشكل تغير البستان ، وتغيرت معه تلك المرأة ، أصبحت عجوزا أكثر من ذي قبل ، لاتنفك بكاءً على قلبها المبتور من النصف ، وتزداد بكاءً حين تعود إليها ذكرياتها لتتذكر أياما كانت شمس السماء فيها مضربة عن الرحيل ، لتراها اليوم وهي ترحل شيئا......فشيئا ....فشيئا .. عن تراب الأرض ، ورغم غصة القلب هذه فقد عظمت الفاجعة حين جاء من يخبرها بأن اليهود قد استولوا على بيتها ، ليشرعوا بهدمه ، عندها ذهبت مسرعة إليه وعندما وصلت وجدت أعداءها في الداخل والناس يلتفون حوله . صرخت قائلة في وجه جندي منهم : لن تدفنوه هو أيضا مثل بستاني عليكم دفني أولا وبعدها افعلوا ما تشاؤون .


صاح الجندي : إنه يعطل مسار البناء ، ولا بد من هدمه وأبعدوها بالقوة ، وتعرضوا لكل من يقترب من البيت ، ومع ذلك فقد أبت الإبتعاد أكثر ، وما إن شرعوا بهدمه حتى أكبت عليه تحميه وإذا بالركام يعلوها لتختفي بين الردم والهدم . رحلت هي أيضا مثل قرص الشمس في
أرضها .... رحلت عن بيتها العتيق ، وعن الأرض المكللة بالأشجار .... رحلت عن جمال يسكن عينيها كان أجمل ما في الكون من جمال !! وهكذا هجر الأحبة بعضهم ، ولم يعد هناك بيت ولا امرأة ولا بستان ....... حتى ذلك المشهد المعروض أضحى في عالم النسيان . كأنما أحداثه تجري منذ ألف ألف عام ، كأنما الآن لم تكن أبدا قد بيعت الأوطان .