يحكى أيّها الملك السّعيد,أن حرباءً شاباً قد تركَ كهفهُ وخرج يسعى ,,,وكان في نيّته هدفاً يتمنّى أن يصله ,ولكن ليس بجهدٍ وكدّ كما الشرفاء ,,ولا بتعبٍ وسهرٍ كما الأبرار , بل بالمكر والخداع, وتتغيير لونَه كما الحرباءات.
وأنت تعلم يا شهريار,أن الحرباءات تمتلك هذة الموهبة الفذّة منذ الأزل ,ولكنها تستعملها بقصدِ الدفاع عن نفسها, وبتأثير الغريزة البدائية البريئة .
واقتبسها الإنسان, بدافع غريزةٍ قذرةِ الأهداف ,وغير بريئة .
وصادف أن رأى هذا الحرباءُ أمامه جبلاً أبيضاً ,يسكنه أناسٌ من عشّاق الحمام , يشغلون كلّ يومهم بتربية الحمام الأبيض ,يُطعمونه ويهتمّون به ويُسكنونه علّياتِ بيوتهم, يلعبون معه, فرحين,,, إن طار الحمام ,وفرحين,,, إن حطّ الحمام ,أما أكلهم وشربهم ومعيشتهم ,فكانت مما تجود عليهم الأحلامُ يوماً بيوم ,أو ليلة بليلة .
قرّر الحرباء الفتى غزوَ الجبل علّه يجد ضالّته هناك ,فأخذ يتسلّق السفح الأبيض , لاهثاً, وقد انقلب لونُه أبيضاً ناصعاً كلون الصخور والطيور هناك.
ومن حسن الحظ الذي يأتي أحياناً بدون مناسبة, كان هناك فتاةٌ صغيرة تلعبُ وحدها, تتسلّق الصخورَ تارةً , تغمضُ عينيها تارةً, وتدورُ حول نفسها ثم تحدّق مسحورةً ببريق تلك الصخور الذي يشعّ وينطفىء حسب أمواج البصر .
فتحت الفتاةُ عينيها مرةً بأمرٍ من القدر فرأت الحرباء ,استغربت الصغيرة أمر ذلك المخلوق الغريب, لكن فضولها بدأ يدفعُها إليه بوجلٍ وحذر ,ولما تأكّدت أنّه مخلوقُ مسكين كما أظهرَ نفسه, ركعت أمامه تتأمّله بلهفةٍ ومودَةٍ وانعطاف ,وظنّت أنّه زغلولُ حمامٍ قد تاهَ, أو فقد أمّه, أو فقد جناحيه عند بعض الأعداء القساةِ القلب .أخذت الفتاة تكلّمه وتواسيه بأرقّ وأعذب الألفاظ في الدنيا ,وأخذت تمرّرُ كفَّ يدها الصغيرة بحنانٍ فوق رأسه وظهره, وتعِدُه أنّها لن تتركه أبداً ,وكان هو يتمادى بالخداع والمسكنة, واكتساب اللون الناصع .
وعندما أحسَّت بوجوب العودة للبيت, اقتربت منه كثيراً, وأخبرته بصوتٍ خافت, أنّها ستذهب وتعود حالاً لاصطحابه معها, وأن عليه أن يطمئنَّ تماماً ولا يقلق ,ولا يتحرّك من مكانه حتى تعود .
ومثل حمامةٍ نقيّةٍ جميلة, طارت بأقصى سرعتها وهي تلوّحُ له بيدها وتبتسم بسعادة.
ظلّ الحرباء ساكناً منتظراً قلقاً, يقلّب عينيه التي تشبه( الرادارات ) في كلِّ اتجاه, وسرعان ما رأى الفتاةَ قادمةً اليه تطير طيرانا .
فاطبقَ جفنيه ,وتظاهرَ بالهدوء التّام, والوداعةِ والاستسلام الكلِّي .
وصلت الصغيرة وهي تغرّد فرحاً , وأخذت تخبره عن المخدَّة الحريرية البيضاء التي أحضرتها كي تنقله عليها بسلامةٍ للبيت.
رفعته الفتاةُ بحرصٍ شديد, ووضعته على المخدّة, حملتها وتوجهت لبيتها.
طول الطريق , كانت تمشي برويّةٍ وتبصُّر مخافةَ أن تتعثّر فيقعُ منها أو تقع وإياه فيتأذّى, ولم تكن تتوقف أبداً عن النظر اليه والتكلّم معه وكأنها أم تحرص على وليدها ,,حتى من نفسها .
نادت الفتاة أهل البيت, فهرعَ الجميعُ وتجمّعوا حولها , قصت عليهم الحكاية ,ففرحوا فرحاً عظيماً وهم لا يرفعون أعينهم عن هذا المخلوق. علِمَ الجيرانُ بالأمر , ثم القرية كلها.
توافدَ النّاسُ جماعات جماعات, فرحين مهلّلين ,تملأهم الغبطة والسرور والسعادة, يتسابقون ليقدّموا له الخدمات والعون, ريثما تنمو أجنحتُه ويشتدُّ عودُه ويصبحُ جاهزاً للطيران والتحليق مثل غيره من الحمائم التي تعيش مع سكان الجبل الأبيض .
أما هو,, فقد كان في غاية الإنشراح, لدرجة أنّه لم يصدق نفسه ,بل ظنّ أنّه في حالةِ حلمٍ لذيذ .
مرّت الأيام وصاحبنا يتمتّع بالدفىء والأمان وكل ما لذ من طعام وشراب وراحةٍ ونظافةٍ وأُنس, كان ينام كلّ ليلة قائلاً في سرِّه ~إنهم فعلاً جماعة طيبة~.
تعافى الحرباء الشاب ,وتحسَّنت صحتُه, فبدأ ينسى أنّ الجماعة التي تعتني به فعلاً جماعة طيبة ,وصار يحدِّث نفسَه أحيانا بأن هؤلاء الناس مجرَّد زمرة من الأغبياء .
ماسة
إلى اللقاء في يحكى ,,2