غواية الشكل الشعري وخطأ التعصب
الشاعر:محمد الأمين سعيدي
إننا حين نتحدث عن الشعر هذا الكائن العجائبيّ الذي لا يزال منذ آلاف السنين يسكن قلب الإنسان ، ويغمر حياته بالسحر والجمال والغناء ، فإننا -لا ريب- نتحدث عن أرقى مستويات التعبير اللغويّ ، وأخطرها على الإطلاق . لأنه -أي الشعر- يتّحد مع اللغة وذلك من أجل خلق لغة أخرى ، تشبهها وتختلف عنها : تشبهها من حيث أنها مستقاة منها وقائمة على أساسها ، وتختلف عنها من حيث أنها تخرج تلك اللغة من دلالاتها الذاتية المباشرة وتمنحها دلالات إيحائية تقبل التأويل واحتمالية القراءة.
ولا ريب أن الفرق بين لغة الشعر وبين لغة الفنون الكتابية الأخرى ، أنّ الأولى ترفض الإخبار ، وتكتفي بالتلميح والإشارة لأنها قائمة على الرمز ومرتكزة على التصوير والتخييل.
ونحن ما مهّدنا بهذا الكلام إلا لنؤكد أنّ جوهر الشعر يكمن في لغته وما تحمله من ملامح أسلوبية وخصائص لسانية ، وليس في القالب الذي يُعبّر عنه ، أو التشكيلة الموسيقية التي تحتويه.
وسعينا هنا ليس إشعال حرب الأشكال الشعرية من جديد ، لأن مثل هذا الأمر أضرّ بالشعر أكثر مما نفعه ، ولكنّ غايتنا هي أبعد من ذلك بكثير ، والدافع إليها هو ما نراه ونشاهده من انحياز إلى شكل دون غيره ، وإقصاء لبقيّة الأشكال الأخرى.
إنّ الشعر العربيّ المعاصر قائم لا محالة على أشكال معينة محددة هي : "العمودي" الذي يُمثل التشكيل الموسيقيّ الموروث عن الأجداد ، و"التفعيليّ" الذي اتخذ لنفسه التفعيلة أساسا يقوم عليها وزنه ونغماته بطريقة دائرية تدويريّة ، و"قصيدة النثر" التي تمثل الثورة على الجديد والتي راحتْ تبحث لنفسها عن موسيقا شعرية أخرى ليستْ قائمة على العروض على كل حال ، بل هي نابعة من عمق اللغة ، وما يحدث داخلها من تفاعلات وتواشجات من شأنها أنْ توفِّر النغميّة وأنْ تُولِّد الجرس ، وهذه النغميّة الخفيّة أوالإيقاع الداخليِّ ليس متاحا لكل الشعراء في نظرنا على الأقل.
إذن فأشكال الشعر العربيّ المعاصر هي ثلاثة كما حدّدناها سابقا ، تولّد حديثها وهو التفعيلة من أقدمها وهو الشعر العموديّ ، وقام أحدثها أي قصيدة النثر على ثورة على الشكلين السابقين عن طريق هدم بعض الجدران الفاصلة بين الشعر والنثر.
ولكل من هذه الأشكال ملامح خاصة توجد فيه وتنعدم في غيره ، فالشكل أو القالب العموديّ يتميّز بغنائيّته الصاخبة وبتساوي مساحة القول في أبياته(صدرا وعجزا) وبقافيته الموحَّدة في الغالب . إضافة إلى قِدمه وامتداده في عمق التاريخ العربيّ.
هذه الحصائص هي نفسها التي دعتْ الشاعر العربيّ المعاصر إلى الثورة عليها عن طريق البحث عن شكل موسيقيّ يتناسب مع روح العصر ويتلائم مع نفسية الشاعر في حدّ ذاته ، ذاك أنّ الأوزان الحرة كما ترى نازك الملائكة "تتيح للفرد العربيّ أنْ يهرب من أجواء الرومانسية إلى جو الحقيقة الواقعية ، وقد تلفَّت الشاعر إلى أسلوب الشطرين فوجده يتعارض مع هذه الرغبة عنده ، لأنه من جهة مقيد بطول محدود للسطر وبقافية موحَّدة لا يصح الخروج عنها ، ولأنّه من جهة أخرى حافل بالغنائية والتزويق والجمالية العالية"(1) .
أما قصيدة النثر فقد أخذتْ على عاتقها مهمة تفجير القوالب الجاهزة ، ومحاولة البحث عن احتمالات موسيقية تتجدّد مع كل نص جديد ، فيتحدّد معه طعمها ورائحتها ولونها.
وإنه لمن الوهم أنْ يظنّ شخص أنّ الفرق ببين هذه الأشكال المذكورة هو فرق حادث على مستوى النغم والموسيقى فقط ، بل إنّ الفرق بينها يرجع إلى مرجعية فكرية عميقة ، فالفرق الجوهريّ بين القصيدة العمودية والقصيدة المعاصرة(تفعيلة وقصيدة النثر) هو في حقيقته فرق بين عقليتين عربيتين : عقلية قديمة أنتجتْ شكلا عموديا ، وعقلية حديثة استخلصتْ من العمود القديم أساسا نغميا يجعل من التفعيلة ركيزة للوزن ، فأنتجتْ شكلا معاصرا .
وانطلاقا من هذه الفروق ذاتها ، نرى أنّ كل شكل من هذه الأشكال يمنحنا احتمالات معينة للكتابة والبوح لا توجد في غيره ، كما أنّ كل واحد منها يمتلك عدّة إمكانات للتجديد ، لا ينتبه إليها إلا شاعر حقيقيّ متمكن جيدا من أدواته الإبداعية والتعبيرية ، وهذا ما رأيناه عند كثير من شعراء الحداثة الرواد الذين استطاعوا أن يتجاوزوا قِدمَ الشكل أو حداثته ، وأن يُؤسسوا لمفهومات جديدة استطاعوا من خلالها أن يتخطّوا إشكالية القوالب إلى ما يُعرف بالكتابة أو بالنص(2).
فالعيب لم يكن قط في الإشكال الشعرية ، وإنما هو في الشاعر نفسه . فكثير من شعراء التفعيلة (الهواة)الذين وقعوا عبيدا لنماذج شعرية رائدة ، وآخرون من شعراء قصيدة النثر الذين غطاهم محمد الماغوط بردائه ، وأكثر شعراء العموديّ (المبتدئين) الذين لم يخلعوا بعد عباءة المتنبي ، لا ترجع مصيبتهم إلى القالب الشعريّ الذي اختاروه لأنفسهم ، وإنما تعود إليهم بالدرجة الأولى لأنهم ببساطة يُجيدون التقليد ويُتقنون المحاكاة.
إنّ الشعر كبنية فنية تحمل في داخلها بنية دلالية لا يُمكن أن نُخضِعه لقالب محدّد ، أو لتشكيلة موسيقية بعينها لأنه هو الذي يُسيطر على القوالب والأشكال ويُسخِّرها لما يريد هو أن يقوله بواسطة ما يمتلكه من أدوات جمالية وفنية تجعله يعرض اللغة بصورٍ غير مألوفة ، وبمظاهر استثنائية تمشي على أرضية واسعة من الإيحاء والإشارة ، وتُحلِّق في فضاء أوسع من التصوير والتخييل.
بناء على هذا الطرح ، واستنادا على هذه الرؤية يجب علينا أن نكفَّ عن اتهام الأشكال الشعرية ، لأنها مجرد وسائل وأدوات نتحكم فيها ، وأن نلتفتَ إلى أنفسنا ونسمع جيدا لذواتنا حتى نكتب بالصورة التي تليق بالشعر ، مهما كان الشكل الذي نختاره ، ومهما كانت التصورات والأفكار التي نعتقدها ونؤمن بها.
مدينة سعيدة يوم:19/2/2009.
الإحالات:
(1)د.حبيب بوهرر .تشكل الموقف النقدي عند أدونيس ونزار قباني.عالم الكتاب العربيّ.2008.ص108.
(2) يُمكن حتى للقارئ العاديّ أن يُلاحظ الفرق بين القصيدة العمودية التي كتبها أدونيس مثلا، وبين ما نظمه الشعراء المحافظون . لأن أدونيس ببساطة يعرف جيدا كيف يُسخر هذا الشكل القديم من أجل إنتاج نصوص جد حداثية.أنظر ماذا يقول(أو كيف يقول) في قصيدة "شجرة الليل والنهار" وهي من بحر الخفيف:
ويُضيءُ الليلُ الصّديقُ, وتنسى نفسَــها في فراشيَ الأيامُ
ثمّ, إذ تسقطُ الينابيعُ في صد ري ,وتُرْخي أزرارَهــا وتَنامُ
أُوقِظُ الماءَ والمرايا, وأجلو مثلَها, صَفْحةَ الرؤى, وأنامُ .
.