محكمة ماري ومينا :
ـــــــــ
قبل الغروب ،،، وقبل أن يمسك المؤذّن أذنيه ،،، حيث جلست ماري[1] على كثيب دَمِث ، وأمرت سحيراً[2]، حيث قالت له :
انطلق الساعة واحضر حسيناً ، فقد لقينا من زيغه عَنَتَاً شديداً ، ونريد أن نقضي حق الله فيه .
ثم التفتت إلى مينا وقالت لها : ألكِ حاجة تضيفينها قبل انطلاقة الحصان ؟
قالت مينا : الرأي عندي ، أن تتبعيه حرساً شديداً يشدّون وثاقه ، كي لا يفرّ كما تفر الدنانير من مخابئ الرجال بطلبات النساء ! .
قالت ماري : ويحكِ مينا ،،، كأنكِ تؤيدي نظرة الرجال إلى النساء ! ، وترمقينهم بعين الرأفة ! .
قالت مينا : ليس بالضرورة هو ذاك ،،، ولكن الحق يقال ، وفي هذا بعض حق .
ابتسمت ماري ثم أمرت سحيراً فانطلق .
ــــــــــ
فوافاني حيث أنا ثم قال : أتيتكَ كنفخة النافخ ، ولن أعود إلا بك ، فاجمع شأنك .
قلتُ : إلى أين ؟ .
قال : ساءني ما سألت يا حسين ،،، فاركب والزم غِرركَ ، فلن أطلعكَ على سرّ من بعثني إليك ،،،، .
قلت : لن أركب إلا أن أعرف وجهتي .
فغشيت سحيرا سحابة من غضب ، ثم أرجع أذنيه وبَصْبَص بذنبه ،،، ( وذلك استعدادا للرفس ) ، ثم طرق الأرض بسنبكه[3] .
قلت له : لا بأس سأركب فلا تغضب .
قال : إذن فاركب .
فعلوتُ صهوته وانطلق ، وصرت أرى النجوم كأنها خطوط النار ،،، وما هو إلا شهيق وزفير حتى وقفت بنا عصا التِسْيار في كثيب كأنه شذر الذهب .
فترجّلتُ ،،، وإذا بامرأة جميلة غير بعيدة ، ذات شعر أسود ناعم مسترسل ، وقد مشطته جاعلة مفرقه وسط رأسها ،،، فصرت أخطو نحوها ، وصارت هي ترفع خمارها لتجعله على رأسها ثم لفّته على فمها فصرت لا أرى إلا الأنف والعينين .
ولكن جلوسها على الكثيب ، عاد بي إلى المرأة التي كانت بحضرة الملك الضليل ( امرئ القيس ) حيث الجلسة ذاتها .
فقلت : أمارية أنتِ يا امرأة ؟؟؟ .
ضحكت وقالت : نعم ،،، مارية .
فنظرت تلقاء سحير مبتسما ودون أن ألفظ حرفا واحدا .
هزّ رأسه وقال : نعم هي من بعثتني إليك .
فقلت لها : ألا تخافي الوحدة في هذا المَهْمَه[4] القفر ؟
ضحكت ورفعت جبينها وحاجبيها ، مديرة حماليقها ،،، بمعنى ( أنظر وراءك ) !!! .
ففعلت ،،، وإذا بامرأة أخرى !!! جُعِل لها الجمال صِرْفاً ، كأنّ النساء خرجن منها ، لا هي خرجت من النساء ! ومن كان أصلاً لشيء ،،، كان على الشيء أبقى ،،، ولحياكة الحسن أتقن .
كاهنة في سبكها الجمال ، أشد الأناثيّ غدراً ،،، حيث اسْتَوْدَعْنَها الحسن والدل ، واستوثقته بأمانتها ،،، غير أنها فعلت بهن ما فعله ذلك الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا ،،، فصارت أغدر الأناثيّ ، إذ لم تَدْفَع لأيما امرأة ولو كِسْرة من جمال .
فقلت لمارية : من هذه الفاتكة ؟؟؟ .
قالت : هذه مينا يا حسين !!! .
قلت : آه ،،، أنتِ مارية ،،، وهذه مينا ،،، وانا بينكن !!! وإلى من منكنّ أنظر ؟
قالت مارية : دعك من هذا وهيا بنا إلى خلف ذلك التل حيث مجلسنا قد أعددناه منذ العصر .
فسِرْن أمامي وأنا وراءهن أخطو بخطوات وجلة ،،، وكان الهواء يداعب أثوابهن ، حتى لكاد أن يبدي زينة أبدانهن وسحره .
وفجأة وقفن وقالت مارية : سر أمامنا وسنرشدك إلى المجلس .
قلت : ولم ؟
قالت : حسبناك تسلك مسلك موسى عليه السلام ، فتصير أمامنا وتطلب الترشيد !!! ولكنك لم تبادر .
قلت : والله نسيت أن أكون كمثله ،،، ولكن أعاهدكنّ أن أسلك مسلكه إذا رجعنا من المجلس .
قالت : إذا رجعنا من المجلس ،،، هاه ،، ثم هزّت رأسها ونظرت إلى مينا رافعة طرف حاجبها الأيسر ، وقالت :
ألم أقل لكِ ، نريد أن نقضي حق الله فيه ؟؟؟ .
قلت : أي حق هذا ؟ وما أنتنّ فاعلات بي ؟ ،،، ثم أنا لم آت لكُنّ ، بل أنتنّ سرقتنني من بيتي الساعة ببعثكن سحيرا ،،، وإنكنّ بهذ أسرق من اللص إذا اختلى بالدار !!! ،،، وأنا من سيقاضيكن لا أنتن .
قالت مينا : لا تخف ،،، سنزيل عنك حِذار ما تحذر ، وإنها محاكمة لن تكون إلا يسيرة ، فسر أمامنا يا يرحمك الله .
ففعلتُ حتى بلغنا المجلس ،،، فجلسن أمامي وأجلسنني أمامهن ،،، ثم فُتِحت السجلات ! ، وصارت ماري تلعق إبهامها وتضرب صفحة بعد صفحة ،،، فتبادرها مينا بعد أن تلعق إبهامها هي الأخرى وترجع صفحة أو صفحتين وتقول لمارية : هذه أولا .
قلت لهن : ما هذا ؟ هذه أولا وتلك ثانيا ،،، ما الأمر ؟ وهل أنتن قاضيات ؟
قلن : نعم .
قلت : وأين الخصم ؟
قلن : نحن أيضا !!! .
قلت : ولكن القضاء قد نيط بتلك التي اخضرّ خطُّها ،،، ولن أقبل بغيرها .
نظرت مينا إلى مارية وقالت : أسمعتِ قوله ؟؟؟ إنه لا يعبأ بنا ، وكأننا أمامه أضغاث نساء ، لا قاضيات يأتمر المرء بأمرنا وينتهي بنهينا ،،، .
قالت مارية : لا تبتئسي يا أخُيّة ،،، انظري في ذلك الكتاب وأعلميني بما يوجب التجريم ، علّنا نطوقه به الساعة ،،، ثم انظري الأحكام والحدود .
قلت : ما هذا ؟؟؟ أفتخذتنّ الأمر سخريّا ؟؟؟ أي تجريم هذا وأي تطويق ؟ ثم لا يصح أن يكون الفرد خصما وقاضيا في آن واحد .
نظرن إليّ بعيون أقتل من أسنّة الرماح ، ثم قالت مارية : إسمع يا حسين ،،، لقد أشارت عليّ مينا ، أن أتبع سحيرا حرسا شديدا ، ليشدوا وثاقك فتأتينا تَرسُف في الأصفاد ، غير أني لم أفعل ، وإن الحرس والعسس على أرجائها ، فما هي إلا إشارة فتحيط بك الخيل والعسكر ،،، فامسك عليك لسانك .
ثم نظرَتْ إلى مينا وقالت : هاه ،،، ماذا وجدتِ ؟
قالت مينا : أتأمّل هذا الوعيد أنظر كيف نطوق هذا الحسين به .
قالت مارية : ما هو ،،، أرينيه ؟
قالت مينا : ( سأرهقه صعودا ) !!! .
قلت لهن : ماذا ؟؟؟ !!! ،،، والله إن هذا لظلم كبير ، هذا وعيد الوليد ابن المغيرة ، حيث فجر بعد أن تبين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر .
قالت مينا : يا هداك الله ،،، قلتُ إني أتأمّل وحسب .
قلت لهن : أريد محامياً ،،، الآن .
قالت مارية : من تريد ؟
قلت : عماد ابن الغزير .
قالت : ولكنه بعيد في الفيوم .
قلت : إذن فهشام عزاس .
قالت : ومن هذا ؟ لا نعرفه .
قالت مينا : ستعرفيه يا مارية ،،، ولكن يا حسين إن هشاما خطب بالأمس ، وأظنه في شغل شاغل .
قلت : مسكين ،،، أسأل الله أن يفرغ عليه صبرا .
قالت وهي تشد على أسنانها وتنظر إليّ دون أن يتحرك طرفها : ماذا تقصد ؟؟؟ .
قلت : لا شيء .
قالت : عموما ،،، لن نضيّق عليك ،،، سندعوا عماداً وهشاماً ليكونا محاميا الدفاع .
ثم انطلق سحير وعاد بهم ، ثم سلّما وجلسا .
أما عماد : فجعل يقول ،،، أفي هذه الساعة يا حسين تطلبني ؟
قلت : وما في ذلك ؟
قال : كنت أنتظر نوم والداي ، فما أن ناما حتى دعوتني أنت ! .
قلت : لم أفهم ،،، ماذا تعني ؟؟؟
قال : هات أذنكِ لأُسرّ لك .
ففعلتُ ،،، حتى انتهى من إسراره .
فقلت له : آه ، فهمت ،،، إذن أنت هنا وقلبك في الفيوم ،،، وإذن فلن تفيدني بشيء ،،، ثم نظر إلى الحضور وابتسم .
فقلت : وأنت يا هشام ،،، ما عندك ؟
قال : أما أنا فلست محاميا ،،، ولكن ربما أكون شفيعا .
قال عماد : وأنا أرمي عن قوسك يا هشام .
ثم قالا : ما تهمة الرجل ؟
قالت مينا : تهمة الحب والعشق والجوى .
وقالت ماري : تهمة إسراره من ( هي ) تلك التي غيبها في خواطره .
نظر إلي هشام وقال : ماذا تقول بهذا ؟
قلت : يا هشام ،،، والله إنها امرأة ، متى أرتني بعض سحر اللمى ، لم يكن بد أن يتفرّق قلبي بعد أن يتزلزل زلزالا شديدا ،،، فهل عليّ لوم يا يرحمك الله ؟
استدمع هشام وكاد أن يجهش ، غير أن عمادا ابتدره بمنديل وقال له : كفكف .
ثم قال عماد : وماذا بعد ؟
قلت : والله يا صاحبي ، إنها شفاه كالعُنّاب تحزّز بهن ما يشبه مراجيع ورد ، أو نواشر نهد ، ثم أطبقن على ذلك النسَق .
قال : وهل بدى ذلك في الشفاه ؟
قلت : نعم بدى ،،، ونَجَمَ فيهن الرَشْح والنَتْح كالعَرَقِ يُزاحم بعضه بعضا ،،، وكل رشح اعتدّ نفسه عسلا .
قال : أكلّ هذا في الشفاه ؟
قلت بتعجب : أكلّ هذا يا عماد !!! بل إنها شفاه تجيد السفك ، كجريء مُقتحم ، أو مُفترٍ مُسْتَهْدِف ،،، وقد أشفق قلبي من تلك الغياهب ،،، غياهب العشق ،،، حيث بدت هي مخلّفة وراءها بقية النساء في تفاسق الأنوثة .
قال عماد : أرى أنك غير آثم .
وقال هشام : أنا أيضا أرى ذلك ،،، وإذن فأنت من التهمة الأولى براء .
قال عماد : تبقى التهمة الثانية :
هي ،،،، من هي ؟
قلت : قد قلتها آنفا ،،، ذات الشفاه .
قال : نعم ،،، فمن هي ؟
قلت : لن أقول ،،، فإن قلت ستغضب وتهجرني ،،، أتحب أن أُهْجَر يا صديقي ؟
قال : لا ،،، لا أحب ،،، وأنت محق .
وقال هشام : أنت محق .
ثم نظرا إلى الفتاتين وقالا : أتقبلن شفاعتنا في الرجل ؟
قلن : سننظر في الأمر بعد ساعة من الآن .
قلت لهن : لا تكنّ كأصحاب الجنة ، إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين ،،، وذلك بعد أن غدوا على حرد قادرين .
فابتسمت مارية ونظرت إلى صاحبتها وقالت : هل نُنْفِله عفوا ؟؟؟
قالت مينا : نحن على العفو أقدر ،،، ثم حكّت رأسها وقالت الحمد لله وكفى ،،، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى ،،، تجاوزنا عنك يا حسين ، على أن تكتب من الخواطر ما يُرْتجى .
هذا وكل شيء قد انتهى
ــــــــــــ
حسين الطلاع
3/6/2009
المملكة العربية السعودية - الجبيل
[1] : هي الآنسة ماري ديفيد ، أجادت العربية أكثر من لغتها الأم حتى صارت كأنها من عرب الجاهلية في اللغة والبيان .
[2] : سحير من أحصنة الجن وهو افتراضي وليس حقيقة .
[3] : نقول سنبك الحصان ، وحافر الحمار ،،، والبصبصة هي تحريك وتلويح الذيل كأنه يمصع يمينا ويسارا .
[4] : المهمه من أسماء الصحراء الواسعة .