(1)
كلما كتبت سطرًا محوته و ما بين السطور تضيع مجلدات بأكملها فيها أقاصيص عن تلك البدايات التي تحكي عن أول وجعي وآخر رصاصات الموت التي اخترقت حبر التّمني ؛ من سيصدقك حين تقول أنّك وجدت نفسك في مرآة عينيها ذات حرف وذات صدفة أنبتت ألف سؤال عن العشق وعن جدوى الموت وحيدًا في بستان الرغبة المدجج بأزهار النرجس وفوضى الضياع على أعتاب بيتها ونافذة الحلم ؟
من سيصدقني وأنا نفسي لم أعد أصدق ذاتي ؟ أو كل هذا الظلام لي وحدي ؛ جاء من أجلي ليحجب خيوط الضوء عن حلمي ؟
(2)
ناداني الحلم ذات ألم قائلًا : أنا أصدقك فعدْ إليّ متى تشاء .
قلت له : أنا هنا منذ ألف عام أنتظر .
قال لي: ما زلت في أول الطريق فعدْ إليك .
قلت له: وأين آخره ؟
قال لي : أنا أوله وآخره وأنت من رمى الحجر في بئري .
قلت له : كنت عاقلًا حين رميته ، لكن المجانين من حولي كانوا أكثر قسوة مّما ظننت ، غير أنّي سأحاول أنْ أعود بنصف عقل وبقايا قلب و أمنية لم ترَ الشمس ، وكبرياء بكامل أناقته يتحدى شماتة واقع لم يكن لنا فيه نصيب .
قال لي: أوترضى بالهزيمة ؟
قلت له: إنْ كنت تسمي تآمرك عليّ مع هذا الواقع بالهزيمة فنعم الرجوع إلى عقلي .
فلتعد مهزومًا أيّها الحزن القابع فيّ ، خيرٌ من أنْ تسأل ظلك التائه عنك سؤالًا : أين عقلك لينقذك من جحيم السهو والضياع وخطأ حساباتك الفلكية وأوهام برج الأمل الكاذب ؟
(3)
هي الدنيا يا أنتِ ، هي الحياة لا أنتِ ، هي الحياة حين تأتي رياحها بما لا تشتهي سفنك فيحاصرك الموج من كل جانب ، وتسقط في بحر لجيّ تصارع الموت لا من أجلها فقط بل من أجل أن تنجو بنفسك ، وهي على الضفة الأخرى تنظر إليك من بعيد ، لا بيدها حيلة ولا بيدك (فتيلة )، واقف كالمجنون لا هنا ولا هناك ؟ كأنّك شيء يشبه ظله ، كأنّك لست أنت . وداعًا لحلم أبى إلا أن ينكسر في زجاج الغياب وفوضى المستحيل .
(4)
تقول ليَ النجوم عدْ إلينا ، فما زال هناك أمل ، ويقول ليَ الصبر وهو ينفض يديه من غبار النار التي تشويني : ما زلت أقرأ في عينيك الرغبة في الرجوع فتعال إليّ ، وتقول هي ومرارة الفقد أحالت الجفون إلى سواد قاتم : لا أملك قلبًا يصلح لكَ ولي ، وأقول أنا : لو لا قلّة الحيلة لخضت غمار الموت من أجلكِ ، لكنّني أعلم علم اليقين أنّك لست لي ، فقد تأخرت عليك كثيرًا ، وحجبك الضباب عني دهرًا كاملًا ، فكنت أنا وأنتِ كما الزيت والماء ، والعاقل يا صديقتي من عقلها وتوكل على الله ، والأحمق يا حبيبتي من ركبها وتمنى على الله الأماني و رجوع الزمن إلى الوراء ، ولن يصلح العطار ما أفسده الأمل .
(5)
الحلم الحقيقي يا صديقتي هو الذي كان يمكن أنْ يتحقق بقليل من الحظ أو التوفيق أو حتّى الصدفة العابرة . والوهم يا حبيبتي هو ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحوّل الشرق غرب والغرب شرق ، وتعلمين كما أعلم أنّ هذا وذاك كان بيننا مستحيلًا ، لذا فقد قررت أنْ أفوز بكِ كصديقة ؛ وأنْ أكون صديقك الذي يصدقك ويكون خير من أخ ولدته أمّك ، فلعلي بهذا الاختيار انتصر على برج النحس ، وكوكب العفاريت الذي ما زال يتنطط أمامي كلما نظرت في عينيك .
هل أستطيع أنْ أكون كذلك ؟
سألني الحلم هذا السؤال وأنا في آخر سكرات الوجع انتزعك من شراييني ، فقلت له يا صاح ؛ سقط النشيد في قعر بئر الأمنيات فكان كمجنون ألقى قلبه في بئر عميقة فمن أين لي بعقل ليخرجه ولا أحد يستمع إلى صراخه ويعبأ بأنينه ، فمات مضرجًا بشوقه وسط الظلام ، ولا حرفًا من حروف الأبجدية انتصر لعابر سبيل ينتمي لفئة الغارمين وقد أمسك بحرفين في زمن الضياع ، فطب نفسًا أيّها الحلم ، فأنا لن أحلم بعد اليوم لا بحاءٍ ولا بباء ؛ فقلبي أنهى مهمته وبات ملك صديقي .