أحـلام مشروعة
إسـلام شمس الدين


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


في الطابق الأرضي بمستشفى معهد ناصر المطل على صفحة النيل التقيت به.. كان ضمن مجموعة من جرحى الانتفاضة الذين يتلقون علاجهم بالقاهرة.
أثار انتباهي سريعاً؛ فقد كان أصغر الموجودين عمراً وأكثرهم حركة ونشاطاً هنا وهناك، يمازح هذا؛ ويتحدث إلى هذا؛ ويداعب هذا.. بدا واضحاً أنه يحظى بمحبة الجميع.
اقتربت منه بهدوء.. فاستقبلني بابتسامة ترحيب:
- هل أنت صحفي؟
- وهل أبدو كذلك؟!
- الكثير من الصحفيين يأتون إلى هنا لإجراء حوارات معنا، وأظنك أحدهم.
- وهل تتحدث إليهم؟
- بالطبع فهم ودودون جداً معي.
بادرني بالسؤال عن اسمي.. ابتسمت لهذا التوافق اللحظي في رغبة كل منا في التعارف.
سألته أن يحدثني عن نفسه؛ عائلته؛ مدرسته؛ أصدقائه؛ هواياته؛ أحلامه..
انتابني شعورٌ مع سؤالي هذا بأن "رامي" يمر بمرحلة تحول فجائي في عمره، أحسست به وقد كبر عشرين عاماً؛ هدأت ملامحه، أصبحت كلماته أكثر اتزاناً، نبرة صوته أكثر عمقاً وشجناً..
صمت قليلاً كمن يبحث عن استهلالِ بارع لخطبة طويلة قبل أن يشرع في الحديث عن نفسه.

"رامي"، الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، يحيا حياة بسيطة بأحد أحياء رفح مع عائلته المكونة من الأب والأم والجد وسبعة أشقاء بينهم شهيدان، تعتمد هذه الأسرة الكبيرة في معيشتها على العائد اليومي للأب والأخ الأكبر من عملهما المتقطع بأحد المصانع داخل "الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948".
ورغم كل الظروف المحيطة به؛ إلا أنه يجتهد للانتظام في دراسته قدر استطاعته؛ مع استغلال أي عمل مؤقت يساهم في زيادة دخل العائلة.
لم يكن "رامي" بطلاً ثورياً، أو مناضلاً يحمل بداخله أحلاماً قومية عريضة... تجمعّت كل أحلامه في حلمِ واحد بسيط ، إنما يعني بالنسبة له الكثير... فهو يحلم بأن يستطيع الغناء بحرية؛ دون قيود.
أفاق للحظات من شجونه، سألني ببراءة تتناسب وسنوات عمره العشر:
- هل أخطأت في حلمي هذا؟
أحياناً تشعر بعجزك التام أمام أسئلة بسيطة، من فرط بساطتها تحمل لك الكثير من المفاجأة فتصيبك بالحيرة والارتباك. فحد علمي أن كل إنسان من حقه أن يحلم، أياً كان حلمه فلا يملك أحدٌ أن يصادر أحلامه؛ لا يملك أحدٌ أن يمنعه من الحلم.
أجبته بالقدر نفسه من البراءة:
- ولم لا تغني؟
بدت له إجابتي من فرط تلقائيتها؛ إجابة ساذجة..
- كيف أغني وسط أزيز الطائرات ودانات المدافع وطلقات الرصاص؟! كيف أغني إذ أترقب اقتحام الجرافات لدارنا في كل لحظة؟! كيف أغني وأنا أخرج لمدرستي ولا أعلم إن كنت سأعود ثانيةً أم لا؟ كيف يعلو صوت الغناء وسط مشاعر الخوف وعدم الأمان؟!
اقتربت منه أكثر، نظرت مباشرة إلى عينيه محاولاً إثارة التحدي بداخله:
- فلتحاول؛ وثق أن صوتك أعلى من أزيز الطائرات ودانات المدافع وطلقات الرصاص، وأنه أقوى من مشاعر الخوف وعدم الأمان.
استغرق في التفكير لبضع لحظات محاولاً استيعاب كلماتي.. ملأت ملامح عدم الاقتناع وجهه الطفولي.
بادرته بابتسامة تشجيع..
- لم لا تغني الآن؟
- هنا بالمستشفى؟!
- ولم لا؟
تلّفت حوله، تطلع إلى وجوه الجميع محاولاً تخمين ردود أفعالهم.. بدا أن الفكرة لامست وتراً بداخله فأوقظت حلماً سجيناً..
ارتفع صوته بالغناء مع كلمات أحد أعمال سيد درويش الخالدة ( زوروني كل سنة مرة )، ورغم دهشة الحاضرين، إلا أن نظراتهم حملت إليه الكثير من التشجيع.
نهضت تاركاً إياه يهدهد أحلامه بالغناء، ابتسمتُ إليه مودعاً من أخر الغرفة..
أشار إلي والفرحة تملأ وجهه:
- سأنتظرك غداّ
أومأت إليه بالإيجاب وانصرفت.

لم يغب "رامي" عن تفكيري وأنا في طريق عودتي إلى البيت..
راجعتُ سريعاً كل ما أذكره من القوانين والمعاهدات والمواثيق، أخذت أفتش فيها عن قانونٍ واحد يمنعنا من الحلم أو يضع شروطاً لأحلامنا.
- كيف يكون شكل حياتي إن تم تجريدي من الحق في الحلم؟!
نفضت الفكرة عن ذهني سريعاً، فقد كانت أصعب من مجرد تخيلها، فربما نتقبل فكرة منعنا من السفر مثلاُ أو من التنقل أو من القيام بأعمال معينة، وقد يتم حرماننا من الملكية، وربما يتم الحجر على آرائنا.. لكن أن يتم حرماننا من الحلم؟!

*****


توالت لقاءاتي و"رامي"، اعتدت زيارته حتى أصبح جزءً رئيساً من حياتي اليومية.
توطدت علاقتنا كثيراً، فقد منحني صداقته سريعاً، فأصبحتُ أكثر حرصاً على الاحتفاظ بها.. كنت أفسح له المجال للتحدث عن "رامي" و أحلامه، أحاول استخراج ذلك الطفل الكامن بداخله، أساعده على الهرب من سجنِ اغتال طفولته و براءته.

في الثالثة تماماً كما اعتدت يومياً كنت أخطو على الممر المؤدي إلى غرفته حين اخترق هدوء المستشفى عزفٌ عشوائي على أوتار آلة العود، لم تدم دهشتي طويلاً؛ فبمجرد ولوجي الغرفة تبدد فضولي لمعرفة مصدر الصوت، فقد كان "رامي" ممسكاً بالعود بين يديه كعازفٍ ماهر... قفز فرحاً بمجرد رؤيتي..
- أراك حصلت على هدية ثمينة.
- أهداها لي مدير المستشفى عندما علم بعشقي للغناء.
- أظنك محظوظاً بمشاركة الجميع لك حلمك، فعندما كنت في مثل عمرك لم أحظَ حتى بالسؤال عن ماهية اهتماماتي.
دوت ضحكته فعطرت سماء الغرفة بالسعادة و البهجة، شاركته الضحك قبل أن أسأله:
- هل تجيد العزف؟
- قليلاً، أتمنى لو أتعلم.
بدأ يستعرض مهارته في العزف.. لم يكن متمكناً، إلا أن أوتار العود كانت تتراقص تحت أنامله؛ تطاوعه خشية إفساد فرحته.
توقف فجأة عن العزف.. بادرني بطلب مفاجئ:
- هل يمكنني حضور أحد عروض دار الأوبرا؟
صمتُ للحظات والدهشة تلفني قبل أن أجيبه:
- دار الأوبرا؟!
- كم أحلم بحضور أحد عروضها الغنائية، ألا يمكنك مرافقتي إلى هناك؟
- بالتأكيد، و لكن هذا يتطلب موافقة مدير المستشفى
- سأقنعه أنا بالموافقة.
- أراك واثقاً من نفسك.
ابتسم مزهواً..
- نعم فمدير المستشفى صديقي.

*****


في طريقتا لدار الأوبرا كان يسابق السيارات المسرعة على طريق ( كورنيش النيل ) متلهفاً لتحقيق أحد أحلامه البسيطة، بدا وكأن السيارات تفسح لنا الطريق كي لا تتسبب في تأخر"رامي" عن حلمه.
منذ وصولنا إلى دار الأوبرا سيطرت علامات الانبهار التي لا تخلو من الفرحة على ملامحه..
اكتشفتُ مع انطلاق الحفل الغنائي أن علاقة "رامي" بالغناء ليست مجرد حلم، بل هي عشق حقيقي، فقد كان يردد كلمات الأغنيات وألحانها بطريقة تدل على حفظه التام لها.. ورغم أنني لم أكن أحفظ الكثير من تلك الأغنيات إلا أن تجاوبه معها جعلني أشعر بسعادة غامرة.
ما إن انتهى الحفل، وأضيئت الأنوارُ حتى تسللنا سريعاً للصعود إلى خشبة المسرح، وقف"رامي" ككبار نجوم الغناء مواجهاً للمقاعد الخالية ليسبح في بحور أحلامه، سمح لنا عمال المسرح بالوقوف لدقائق قبل أن يطلبوا إلينا النزول.. قفز فرحاً كمن حقق نصراً كبيراً، عانقني بقوة؛ فسرت أحاسيسه البريئة إلى داخلي لأشاركه فرحته الصبيانية.
طيلة طريق العودة؛ التزم الصمت وكأنه يخشى أن توقظه الكلمات من أحلامه، شاركته صمته مكتفياً بمراقبة لآلئ الفرحة المتراقصة في عينيه.

*****


منذ أن عرفت "رامي" لا ألقاه إلا فرحاً؛ متهلل الوجه؛ منطلقاً كعصفورِ يحلق في رحلاته الأولى نحو السماء... لكن فرحته اليوم أكثر من أي يومِ مضى، عانقني طويلاً.. لم يدع لي الفرصة لسؤاله عن أسباب سعادته، نطق بحروفِ أقرب إلى الشدو:
- لقد سمح لي مدير المستشفى بالخروج، وسأعود إلى رفح خلال يومين إن شاء الله.
لم استطع إخفاء وقع المفاجأة، بالرغم من سعادتي لفرحه.
أحس بما يدور في نفسي من مشاعر افتقادي له..
- ستكتب لي، أليس كذلك؟
- بالتأكيد، وأنت ألن تفعل؟
- سأحاول كلما استطعت

لم يختلف لقاؤنا كثيراً هذه المرة، إلا أن الاحساس بكونه اللقاء الأخير ألقى بظلاله على حديثنا، ولأنني لستُ من عشاقِ لحظات الوداع، ودوماً ما أحرص على تجنبها، لذا فقد قررت ألأ أحضر في اليوم التالي لتوديعه، مكتفياً أن تكون هذه زيارتي الأخيرة له.
احتضنته قبل مغادرتي الغرفة، ذكّرته بوعده بمراسلتي.
غادرت المكان للمرة الأخيرة حاملاً معي الكثير من الذكريات التي جمعتنا معاً.

*****


كان "رامي" أكثر مني وفاءً بوعده، فلم تنقطع رسائله عني..
كنت أنتظرها بلهفة؛ أبحث بين حروفها عن بقايا حلمه الصغير.
اليوم وصلتني منه بطاقة معايدة، يزف لي فيها بشرى التحاقه بفرقة كورال أطفال الأقصى.
ما زال حلمه البسيط يداعب خياله..
لم يستطع تحقيقه بعد..
إلا أنه لن يدعهم يسرقونه منه.

*****


إسلام شمس الدين
مايو 2002