بين أستاذنا الكبير اللغوي المربي عاصم بن محمد بهجة البيطار وسيدي الوالد صلة وثيقة وعلاقة قديمة حميمة،
فهما صديقا طفولة، وجيران إقامة، وصديقا دراسة، وزميلا تدريس...

وحين انتقلت إلى الرياض للعمل، كان من حسن حظي أن جاورت أستاذنا الكبير البيطار في السكن،
وكان لي جلسة قصيرة معه في مسجد الحي عقب كل صلاة جمعة،
فضلا عن تشرفي بزيارة داره العامرة...

وحدثني فيما حدثني عن علاقته المتينة بسيدي الوالد،
وقص عليَّ من أخبار طفولتهما وشبابهما الكثير،
وكان يبدي إعجابه العظيم بذكاء والدي المبكر، وتفوقه الدراسي العلمي من قديم..

ومما أخبرني به هذه القصة التي كان كثير الذكر لها في مجالسه العامة والخاصة..
ولم أكن سمعت عنها شيئا من سيدي الوالد،
فطلبت من أستاذي الفاضل أن يكتبها لي؛
لتبقى وثيقة للتاريخ عن أحد رجالات التربية والتعليم في عصرنا هذا،

وبعد إلحاح مني على مدى سنتين،
تفضل الأستاذ بكتابة القصة باختصار،
وجعل عنوانها: ( من الذكريات المشرقة ).

وقد رأيت أن أقدمها هدية إلى أخواني الأفاضل في هذه الواحات الطيبة؛
لما أكرموني به من حسن الاستقبال وكرم الحفاوة والترحيب.





بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
مـن الذكـريات المشـرقـة


عاصـم بن محمد بهـجة البيـطار
عضو مجمع اللغة العربية بدمشق
دمشق 14/7/2003 م





هي ذكرى قديمةٌ تعود إلى عام 1945م حينما كنتُ طالبًا في صفِّ شهادة الدراسة الثانوية البكالوريا الأولى على النظام الفرنسي الذي كان ينصُّ على أن الشهادةَ الثانوية تُدرَس في الصفَّين الحادي عشر والثاني عشر؛ ( البكالوريا الأولى [ أدبي أو علمي ] والبكالوريا الثانية [ فلسفة أو رياضيات ] )،
وكانت الدراسة آنذاك أكثر جدًّا واحترامًا, ولم تكن فورةُ الاتصالات قد استأثرت بنصيب الأسد من اهتمام النشء, وأنسته إلى حد كبير كتبَه وبعض واجباته المدرسية...
وقد رافقتُ والدي رحمه الله إلى المملكة العربية السعودية التي توجَّه إليها تلبية لدعوة من جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله ليقوم بتأسيس مدرسة لأبناء نجد بعيدًا عن أهلهم الذين كانوا لا يعرفون سبيلاً إلى التعلم آنذاك إلا المشايخ والمساجد, ويجهلون أكثر ما يجري في العالم من تقدم متسارع في آفاق المعرفة المختلفة, وكانت الطائف في الحجاز هي المكانَ المقرر لإقامة هذا المشروع ...
وقد كان سفرنا عن طريق البر "بغداد فالبصرة فالكويت فالرياض فالمدينة المنورة فمكة المكرمة"، وقد وصلنا إلى مكة بعد شهر كامل من مغادرتنا دمشق .. وأدينا فريضة الحج، وتمت المذاكرة بين جلالة العاهل السعودي وسيدي الوالد رحمهما الله .
وألفت اللجان لاختيار الأبنية وتهيئتها لاستقبال الطلاب للدراسة والسكن, وحينما وصل الطلاب إلى الطائف رجوت سيدي الوالد أن يسمح لي بالعودة إلى دمشق لإتمام دراستي فسمح لي بعد تردد.
ووصلت إلى دمشق بعد غياب ثلاثة أشهر كاملة, وانتظمت مع الطلاب في ثانوية جودة الهاشمي, ولم تكن هناك كتب مؤمَّمَة بل كان المدرس هو الذي يحدد الكتاب المقرر, وكانت الكتب المدرسية بأجمعها تباع في (المسكية)، واشتريت الكتبَ ما عدا كتاب الكيمياء الذي لم أجد نسخة منه على طول تفتيشي عنه,
فكان من زملائي في الصف الأخ الحبيب الأستاذ أحمـد ذوالغـنى، فحمل كتابه إليَّ وقال: أنا انتهيت من دراسة الكيمياء في العطلة الصيفية وأنا مستغنٍ عنه الآن .. فأخذت الكتاب على استحياء, ووعدته أن أرده قريبًا.
ومضت الأيام, وغاص الكتاب بين الكتب الكثيرة المبعثرة هنا وهناك بعد أن حصَّلت نسخة لي منه.
ووقع نظري عليه مصادفة بعد ثلاثة أشهر من يوم استعارتي إياه. فشعرت بخجلٍ شديد, وحملت الكتاب إلى صاحبه ورحت أعتذر إليه بحرارة, وعتبت عليه أنه لم يذكرني به،
فراح يبتسم وهو يقول : ألم أخبرك أني انتهيت من دراستي للكيمياء ؟
فقلت: يا أخ أحمد، أنا أقرأ الدرس اليوم فأنساه بعد يومين, والكتاب عندي منذ ثلاثة أشهر.
فقال: أرجو أن تسألني عن أي شيء في الكتاب,
ففتحت الكتاب على بحث حمض الكبريت، وطلبت إليه أن يذكر لي تفاعلاته مع العناصر المختلفة.. فأجابني بتدفق عن كل شيء مذكور في الكتاب دون خطأ في أي شيء وفي أي معادلة كيماوية ..
وكررت الأسئلة, وكان يجيب كأنه يقرأ في كتاب.
ولما رأى دهشتي بل ذهولي قال: اترك هذا وانتقل إلى امتحان أكثر صعوبة وعسرًا.
فقلت: وهل هناك أصعب من هذا ؟ قال: نعم, افتح الكتاب على أية صفحة تريدها واذكر لي رقم الصفحة، وسأذكر لك ما فيها من معلومات ومعادلات كيماوية..
ففعلت، وأجاب فلم يخطئ، فتركته وأنا أقول: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ).

.



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


من اليمين: الأستاذ عاصم البيطار، مع رفيق شبابه وزميله الأستاذ أحمد ذوالغنى
في ساحة ثانوية الميدان ( الكواكبي فيما بعد )، سنة 1953م.