]
على قيد الحياة
دكتور/ محمد فؤاد منصور
وقف التلميذ الصغير بقامته القصيرة وجسده النحيل أمام طبيبة المدرسة.. كان رأسه بالكاد يظهر من خلف الطاولة فبدا بشعره الأشعث ووجهه الممصوص كفازة مهملة على حرف المكتب.
كان يشكو من نوبات الدوار وزغللة العينين التى تداهمه بين الحين والحين.. تطوعت الإخصائية الإجتماعية رافقته إلى حجرة الكشف لتبلغ الطبيبة أنه يشكو بإستمراروأنه لايرى السبورة بوضوح.
تفرّست الطبيبة فى وجه الطفل وأشارت إليه أن يقترب .. تفحصته بعينها المدربة فهالها شحوبه ونحول جسمه وقد تهدّلت ملابسه الرثة بألوانها الكالحة فبدا كبلياتشو فى سيرك ردئ..
لاحظت أصابع قدميه المتربة التى تطل من بقايا حذائه المهترئ.. بدت عظام الوجه ناتئة والعينان غائرتان فى وجه يغطيه نوع من "القشف" مع تقرحات بسيطة على جوانب الفم ، مدّت يدها لتفحص العينين فبدت الملتحمة من الداخل بيضاء تميل إلى الزرقة مع تساقط أجزاء من الحاجبين.
أمرته ان يخرج لسانه فتحرّج قليلاً ثم أخرج لساناً لامعاً يتحرك كدودة ملساء فى جوف الفم. أدركت الطبيبة أنّ الطفل يعانى من أنيميا حادة وسوء تغذية شديد.. خبطت بجمع يدهاعلى الطاولة وصرخت فى وجه الطفل :
- بلاش دلع ولعب عيال.. إياك أن تنزل من البيت دون أن تتناول إفطارك، أعرفكم ايها الملاعين ،تهربون من البيت فى الصباح المبكر حتى يتيسر لكم لعب الكرة فى الشارع وتهملون تناول الفطور وهاهى النتيجة.. فقر دم حاد.
حملق فيها الطفل ذاهلاً وهو لايعى شيئاً .. لم يسمع من قبل بفقر الدم وإن كانت المشاجرات اليومية بين أبويه قد زودته بمعلومات عن انواع اخرى من الفقر مثل " الفقر الدكر" و " وش الفقر"وماشابه أمّا فقر الدم فلم يسمع به من قبل.!
صحا من تأملاته على صوت الطبيبة وهى تلقى محاضرة عن ضرورة شرب اللبن قبل النوم وتناول البيض نصف المسلوق فى وجبة الإفطار.. كانت تتوجه بحديثها للإخصائية التى وقفت تنتظر نتيجة الفحص ثم ألتفتت إليه وقالت فى حزم :
- لاتنس عسل النحل، لابد من تناول ملعقة كبيرة منه قبل النوم.
وعادت لتنبه الإخصائية الإجتماعية
- لابد من إستدعاء ولى الأمر ..الطفل فى حالة صعبة ولابد من نظام غذائى يشرف عليه الأب بنفسه سأكتب له بعض الفيتامينات والمعادن وسأحوله لعمل نظارة طبية.
فى اليوم التالى حضر الأب بناءاً على إستدعاء عاجل من إدارة المدرسة..دفع الطفل أمامه حتى كاد يسقط على وجهه.. كان يتوقع أنه لابد قد فعل مايستوجب العقاب فأراد أن يبرهن على حزمه وإستعداده لتأديب الطفل.. قبل أن تنطق الإخصائية راح يكيل الشتائم للطفل البائس الذى تدحرج على الأرض على إثر دفعة جديدة وقال:
- لايأتى من ورائكم غير وجع الدماغ.. سأكسر رقبتك لو تبين لى أنك أخطأت فى شئ .
لاذ الطفل بالإخصائية فأحتضنته بين ذراعيها وأحتوته لتحميه من عدوان الأب وقالت:
- أهدأ قليلاً ياأستاذ الولد لم يفعل مايستوجب العقاب.. كل مافى الأمر أنه مريض ويعانى من سوء التغذية ونقص حاد فى الفيتامينات مع فقر الدم.
تململ الأب فى وقفته وحك رأسه ثم غمغم..
- ألا يكفى مانحن فيه من فقر ..حتى يضاف إلينا فقر جديد ؟ كان جلياً أن الرجل محدود الثقافة والدخل.. هيئته المتواضعة وملابسه المبعثرة وأسلوبه فى الكلام كل ذلك يؤكد حظه المحدود فى كل شئ. قالت الإخصائية وهى تضغط على الكلمات ليتمكن من فهم ماتقول :
- لابد من وجبة الإفطار فى الصباح.. هذا أمر أساسى ..لاتسمحوا له بالنزول من البيت قبل ان يتناول إفطاره.
تراجع الأب خطوة إلى الخلف وعاود الهرش فى رأسه وكأنما يبحث عن مخرج لأزمة ما ثم صاح فى الصغير وكأنه يؤدى مشهداً تمثيلياً بقصد التخلص من الموقف.
- قل لها أنك تفطر.. أليس كذلك؟ ألم تفطر اليوم؟
أجاب الطفل الذاهل عما حوله ببراءة شديدة .
- لا لم أفطر اليوم .. لم يكن اليوم دورى فى الإفطار ..كان الدور على أخى مصطفى.!!
حملقت الإخصائية فى وجه الأب غير مصدقة لما تسمع ، بدا كل شئ واضحاً تماماً رغم قسوة الحقائق. نكّس الرجل رأسه فى خزى وقال :
- ماذا أفعل وأنا موظف بسيط لايتعدى دخلى ثلاثمائة جنيه ؟ وعندى خمسة أطفال وأمهم. ثم همس كأنما يحادث نفسه: - لابد أن يكون الأكل بالدور.حتى يظلوا على قيد الحياة.!

--------------------------------