القاعدة النحوية والتبرير الشعري
رؤية في إشكالية السهو و درامية الترقيع


أخي الكريم الشاعر الدكتور سمير العمري..
السلام عليكم
يسعدني مرورك أيما سعادة على قصيدتي"فيزياء".كما يسعدني حرصك على أن تكون النصوص المنشورة في الواحة راقية أسلوبا و صحيحة لغة و صادقة مبدأ و شعورا.. و لعلك(و لعل هنا للتوكيد) تقول ذلك صادقا و تبدى رأيك منصفا للحق لا مجاملا و لا كاتما عيوبا..
و لا أراك هنا قد خرجت عن هذا المنحى الصادق لأن الأدب على عكس الخبر لا يحتمل إلا الصدق و لا يجاهر إلا بالحقيقة و ما عاداه فهو لغير غرضٍ هادفٍ كان و صار..
ولذلك فأنا أشكرك أخي أيما شكر على ما أبديت من ملاحظات حول قصيدتي"فيزياء" و طلبت مني أن أجيبك عنها..
و لأنك تعرف قبل الكثير أن الأصل في الشيء هو الصواب لا الخطأ و الحق لا الباطل، فإنني آثرت أن أجيب عن سؤالك بما أعتبره أقرب مني و أيسر لي لا بما لم تقربني منه الظروف فأنا أجهل النّاس به.. وهذا الأقرب مني هو الشعر و ليس النحو ..فأنا أجد نفسي في الردّ بالتبرير الشعري لا البرهنة النحوية و اللغوية البحتة و لعلها حجة من هو أجهل بالنحو من غريب أو أعجمي..
و من هنا ارتأيت أن أكتب تلك الأبيات و سميتها "جمر النواة" ضمنتها ردي عن سؤاليك بما توفر لي من الحجة الشعرية لا النحوية و ما تيسر لي من الحجة البلاغية لا الإعرابية..
فبخصوص سؤالكم الأول:
سعة رأيتك تكتبها مكسورة السين وأزعم أنها مفتوحة فهل هذا من باب السهو أم أنه الصواب؟؟
فأقول لأخي إن ما ورد في لسان العرب الفتحة على سين السعة و ليس الكسرة.وكذلك وردت في القاموس المحيط .و لا أحسبها خرجت عن هذه الحال فيما عدا هذين من المعاجم..
إذن المسألة متوقفة على كتابتها بالكسرة ..و تسقط هنا كل المبررا ت الكيبوردية و غيرها و يبقى فقط المبرر الشعري الذي قصدنا من خلاله هذا الرأي نفسه فيما يلي من قصيدة "جمر النواة":
وَ هَلْ تَضِيقُ بِكَسْرٍ عَابِرٍ سَعَةٌ=فَلَمْ يَسَعْهَا بِهَذَا الكَوْنِ تَطْبِيعُ ؟
و كأن البيت هنا يلتمس من حرصكم سَعَة تستطيع بموجبها السِّعَةُ أن تحول الكسرة نصبة فتكون المسألة بذلك قد دخلت دائرة التطبيع و زال الإشكال. و في ذلك سعةُ حكمة توصد باب الخلاف بلطف.. ثم أن علماء العربية قد أفردوا لكلام العرب أكثر من سَعة و فتحوا له أكثر من معنى و سياق فحوّلوا (أي قلبوا)الألف ياءً و الواو ياءً و غيرها مما أحصاه اللغويون مما يدخل من تغييرات على كتابة الكلمة بما يقتضيه واقع حال المعنى و أحقية بنائها بمراعاة قوانين نحوها و صرفها العامين على مجمل ما سمعوها..
كما حوّلوا (أو قلبوا)نظرًا لمقتضى الحال الكسرةَ إلى سكون و السكون إلى فتحة أو كسرة و ما إلى ذلك مما يستوجبه سياقا الكلمة الصوتي و الدلالي..
و هم في حقيقة الأمر لا يريدون بذلك التضييق على القارئ المتعلم ولا المزايدة على القاعدة النحوية التي طالما أخضعها الشاعر إلى سيرورة دوران نواته الفكرية و نضوح منابعه الجمالية.. فأضاف بذلك بابا في البلاغة و إلى البلاغة انفردت بالتنظير له و الدلالة عليه موهبته المنتفذة و سليقته الرّاسخة فانشغل بعده المنشغلون بالتقعيد و سمّوا هذا الباب:"الضرورة الشعرية". فكان لهذا الباب ما كان من اجتهادات و تأويلات و تفسيرات زادت إلى بحر اللغة رافدا و إلى باب العَروض ضيفا موسيقيا و نحويا وافدا.
و حتى و إن كان كسرُ سين السَّعة لا يدخل بالضرورة في هذا الباب إلا أننا أردنا أن نقول هذه الفكرة بالذات من خلال بيت من قصيدة الردّ "جمر النواة" هو:
وَ هَلْ يَكُونُ لِبَابِ السَّهْوِ مَنْزِلَةٌ=عِنْدَ النُّحَاةِ إِذَا عَادَاهُ تَرْقِيعُ ؟
ذلك أننا اعتبرنا أن أخف التبريرات وصولا للقارئ لدرأ الإشكال تجازوا لا اقتناعا هو أن هذا الأمر إنما هو من باب السّهو، و لا يمكن للسهو أن يصوَّب إلا بالترقيع بناء على قاعدة نفيسة عند الفقهاء هي ترقيع صلاة السهو لا إعادتها.. حتى أن الترقيع محبب و فيه بركة لا تكون بالإعادة ..و من هنا فإن منزلة السهو عند الفقهاء إنما تكون بالترقيع.. و لعله هنا المعنى المضمن الذي حاولنا أن نسقطه على السهو الذي لا منزلة له في اللغة إلا بالترقيع، أي بالتصحيح..وإذا كانت ثمة معاداة بينهما فلا منزلة للسهو و لا قيمة. و يكون بذلك دليلا على جهل السّاهي وتعنته في الصد عن الصواب. و الصواب حق. و من صد عن الحق فقد زاغ إلى غيره و العياذ بالله...
و هي على كل حال محاولة استلطاف لسماحة صدر من يحملون الحق، أي الصواب ، في صدورهم. فيكون بينهم و بين من سها طريقَ نجاة له و بابَ حِلم منهم.
ثم جاء في سياق تعليقكم الثمين وملاحظاتكم النيّرة الملاحظة الثانية كما يلي:
ثم إني لاحظت أنك ترسم التاء المربوطة الساكنة هاء ساكنة وإخال أن السكون يجعل اللفظ مشابها لا الرسم فهلا أفدتنا أيها الأديب المبدع؟؟
فأراني هنا مضطرا لأقول لكم – أخي الكريم – إن المسألة تتعلق هنا بالجانب الصوتي السماعي العروضي.. بمعنى أن القراءة الشعرية الصحيحة هي القراءة التي تراعي سلامة المخارج الصوتية للحروف و هي بذلك تراعي سلامة النطق الذي هو قاعدة أساسية لإيصال الدلالات التي يحدث بموجبها الفهم.
و إذا كان سؤالكم يرتكز على الجانب النحوي الذي يبحث عن التبرير النحوي في صحة حذف نقطتي التاء المربوطة فتصبح بذلك هاء..ثم تسكين الهاء بوضع علامته على الرسم .. و كأننا بذلك نضع هاء فوق هاء..
فالمسألة هنا مسألتان.. و أخالني أرجح باب ما تستوجبه القراءة الشعرية عموما فيما تخلقه من تراتبية توضيحية لا يمكن أن تتم إلا بالنطق الصحيح عموما،و ما تستوجبه القراءة الشعرية في تطور تاريخيتها المتعلقة بتطور تاريخية الشعر العربي على الخصوص.. فمثلما أن للشعر العربي القديم- أي العمودي- قواعد نطقية صوتية متعلقة ببنيته الموسيقية العروضية. فإن للشعر العربي المعاصر قواعد نطقية صوتية اقتضاها تطور بنيته الشكلية الموسيقية التي أنتج العروضيون المعاصرون من خلال اكتشاف قواعدها عروضا جديدا يخضع لخصوصيات العصر و تطور حيثياته الفنية و الجمالية..فمثلما أن للعروض دوائر لا يستخرج منها العروضي البحور إلا من خلال التدوير، فإن للعروض المعاصر تدوير لا تتم من خلاله القاعدة الموسيقية -التي قد تقبل التسكين أو ترفضه-، إلا من خلال تدوير الأبنية الشكلية التي أنتجتها روح العصر و أصبحت تسمى شعرا حرا أو مرسلا ..و كأن الأصل في الشعر هو دوران جمرة الإبداع التي تسبح من خلالها الأشكال فتقد بذلك تيسيرا كبيرا للمقعدين في بحثهم عن القاعدة و قوانينها واكتشافهم لها . فقلنا بهذا المعنى:
وَ الشَّكْلُ لَوْ لَمْ يَدُرْ جَمْرُ النَّواةِ بِهِ=لَمَا تَيَسَّرَ تَدُوِيرٌ وَ تَقْطِيعُ
و لم تكن العرب لتجعل من الخطأ قاعدة لصحة نطق الشعر وكتابته إذا كان هذا الخطأ يتجاوز بنيات اللغة النحوية و الصرفية و التركيبية التي تتم بموجبها صحة المعنى.
و الأساس أن البحور الشعرية المعاصرة عادة ما تتوقف على تسكين التاء دون التوقف نطقا و صوتا على ساكنها، فتنقلب التاء هاء مسكنةً في آخر الكلمة كما جرت العادة في الكلام الشائع الذي لا يراعي إعراب أواخر الكلمات و يجعلها معلقة غير واضحة فيتفادى القائل بذلك حالة الإعراب نقطا في الحرف الأخير كأن نقصد "الجُمْهُوريَةَ"برسم التاء منصوبةً ،فنقولُ" الجُمْهُوريّهْ" فنتوقف عند الهاء المُسكّنة.. و العلة هنا في النّطق إذا كان الكلام عاديا حتى و إن وصل المقصود واضحا للسّامع.
أما إذا كان الكلام غير عاديّ –أي كان شعرا-، فإن الشعر في هذه الحالة يخضع لقواعد موسيقية استنتج الشاعر تبريرها العروضي و النحوي من المسوّغ الجمالي و الرؤية الفنية اللتين تجعلان من النص المقروء خاضعا لبنية صوتية مرتبطةٌ جُمَلُها بعضُها ببعضٍ ارتباطا مدروسا من الوجهة الموسيقية و لكنه لا يمكن أن يخرج بأية حال من الأحوال عن القاعدة النحوية في أصولها و تمظهراتها
و عهدنا بالهاء المسكنة في العروض المعاصر خروجا موسيقيا للفقراتِ الشعرية تنتهي بها فتُحدثُ في النص جمالا صوتيا و موسيقيا موحدا حتى و إن اختلفت حالات الهاء في الكلمات و اختلفت توجهاتها في النص إعرابا و نحوا. و لعلنا قصدنا بذلك في ردنا شعرا هذا الكلام فقلنا:
فَالحَرْفُ إِنْ لَمْ يَذُبْ فِي مِلْحِ تُربَتِهِ=فَلَيْسَ يَنْفَعُهُ سَبْكٌ وَ تَطْوِيعُ
و كأن الحرف أداة خاضعة لقوة عمل الشاعر لا يذوب في ملح تربته وينسجم و يتداعى فيمتصه المعنى،فلا ينفعه سبك و لا تطويع ..و قديما فرقت العرب بين الفطرة و الصنعة فقالت على لسان أحد شعرائها:
و لستُ بنحويٍّ يلوك لسانه= و لكن سلِيقيٌّ يقول فيعربُ
ثم أننا سننظر إلى المسألة من باب آخر ربما لم يتبادر إلى الذهن من أول وهلة و هو أن اللغة العربية إنما كانت في صورتها ألأولى غير منقوطة تماما و برزت في بعض الرسائل المخطوطة و المصكوكات النقدية بغير نقاط ولا تشكيل ..مرسومة هكذا عارية من كل دالٍّ إشاريٍّ لحالة إعرابِها
أو بنائها ..تتقاطر معنى نديا موصولا بقلب المتشرّب لا تخفى عليه كيفية نطقها و لا شواهد نصبها أو رفعها أو جرّها. و كأن الأصل في اللغة هو الحروف مرسومة يقولها المتشرب للغة مُعربةً لا يفيد جاهلها ظهورها و لا يضر متعلمها اختفاؤها.
و لعلنا قصدنا هذا المعنى بقولنا:
وَ الرَّسْمُ أَسْبَقُ مِنْ تَنْقِيطِ صُورَتِهِ=مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْطُنَ الأَفكَارَ تَشْرِيعُ
فأردنا أن نبين أن رسم الحروف أسبق مما لحق به من تشريعات صرفية و نحوية اقتضتها تغيرات حال اللغة بتغير حال أهلها فلم يعد فيهم من يجيدها بدون تنقيط.
في حين أن العرب رستمها كذلك عندما بدأت تتأقلم مع الكتابة بظهور الوافد الجديد الذي هو الورق وانتشاره. و عندما كانت العرب أكثر سليقية في لغتها ومع لغتها لا تتعامل معها بوصفها كائنا آليًّا بدون روح كما هو الحال بالنسبة للمتأخرين الذين هم نحن ومن جاورهم ممن إذا غابت عنهم الشواهد النحوية و الأدلة الإعرابية هرعوا إلى تقية صالحة لكل زمان و مكان يتخفون وراءها هي قاعدة ما كان يقوله الطلبة الأزهريون عندما يخشون السقوط في الخطأ الإعرابي نطقا أمام مشايخهم فيعممون جملة تحذيرية على زملائهم أصبحت مشهورة هي: "سكِّن تسلم".
- ولعل الأستاذ الكريم قد أشار إلى قصيدة "رقصة البجع" بقوله:"بحيرة البجع" فوقع في سهو جميل ذكرنا من خلاله –كما أشار إلى ذلك لاحقا- بـ"بحرية البجع" التي هي سنفونية مشهورة للموسيقي الروسي تشايكوفسكي. فأردنا أن نشير إلى حالة التذكير التي كانت قبلها البحيرة هادئة في نبع مائها والبجعات نائمة تسبح في البحيرة فإذا بأخينا الدكتور سمير يرمي في البركة سهوه فأيقظ به البركة و ذكّر البجعات البيض بما جرى لهن في أحد مقاطع السنفونية المشهورة . والمعروف عن البجعات أنّهن لا يرقصن إلا لحادث جلل حزين كما تقول الأسطورة . فأشرنا إلى كل ذلك بقولنا:
لاَ يَنْفَعُ البَجَعَاتِ البِيضَ إِنْ رَقَصَتْ=فِي غَيْرِ مَا تَنْزِفُ الأَحْزَانُ تَلْمِيعُ
سَجِيَّةٌ فِي حُرُوفِ المَاءِ نَائِمَةٌ=فَهَلْ يَلِيقُ بِنَبْعِ المَاءِ تَرْوِيعُ ؟
هذا كان مبتدأ الرد على ملاحظات أخينا الدكتور سمير العمري شعرا. أما خاتمته فأردنا أن تكون سليقية كما ابتدأت صادقة النيّة صافية القصد كالنواة هي أصل كل شيء وكل عمل .. أما الحروف فهي تحمل في كل يوم ما يبتكره الإنسان من مدلولات تدل على نوايا صاحبها و مقاصده..فختمنا قصيدتنا بهذا المعنى:
وَ الأَصْلُ أَنَّ نَوَاةَ القَلْبِ وَاحِدَةٌ=أَمَّاالحُرُوفُ. .فَتَأْثِيثٌ وَ تَصْنِيعُ
و ما أردنا من وراء ذلك لا تكبرا و لا خلافا و لا معارضة كما قد يشعر بعضنا من خلال قراءة ما تلا قصيدة "فيزياء" من ردود و قصائد. ولعلي سأضيف إلى هاتين القصيدتين قصيدة ثالثة حول حال الحرف و تغيراته تعبث بالشاعر و يعبث بها الشاعر أحيانا كيفما اتفق ..
وأشكر لأخي هذه الفرصة في النقاش،و لكل الإخوة المتدخلين بنقاشاتهم وتعليقاتهم.. والباب مفتوح لهم ..والله من وراء القصد
و شكرا
عبد القادر رابحي