إعْرابُ المَنْقُوصِ مِنْ صِيَغٍ مُنْتَهَى الجُمُوعِ

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين .

يقول أفقر العبيد إلى مولاه ، سعيد بنعياد ، لطف الله به :

-1-

هذا سؤال نَحويٌّ يُحيّر كثيرا من معاصرينا :

اكتب ما بين الهلالين كتابة صحيحة مع الشكل :

* هذه (قوافي) جميلةٌ .

* قرأتُ (قوافي) جميلةً .

* يا لها مِنْ (قوافي) جميلةٍ !

ولقد اطّلعتُ على نقاش حادّ في الموضوع ، جرى منذ ثلاث سنوات في بعض المنتديات ، أبى فيه بعض المتناقشين الاقتناع بما ساقته الدكتورة الفاضلة هند باخشوين من نصوص صريحة لعلمائنا القدامى في هذا الشأن ، مدّعين أنها مبنيّة على أقوال لا يقبلها المنطق ولا تؤيدها الشواهد .

وقد راعني هذا الأمر ، فقمتُ – على قلّة بضاعتي – بالرد هناك على عجل ، ثم أحببتُ نقل خُلاصة للموضوع هنا مع شيء من التنقيح .

-2-
الأصل في الأسماء : أن تُرفع بضمة ظاهرة ، وتُنصبَ بفتحة ظاهرة ، وتُجَرَّ بكسرة ظاهرة ، ويلحقَها في الحالات الثلاث تنوينُ الصَّرْفِ إذا جُرِّدت مِن (أل) ومن الإضافة .

لنأخذ كلمة (الكِتاب) على سبيل المثال :
* يُقال عند اقترانها بـ (أل) : (هذا الكِتابُ مُفيدٌ) (قرأتُ الكِتابَ المُفيدَ) (اطّلعتُ على الكِتابِ المُفيدِ) .
* وعند إضافتها : (هذا كِتابُ النحو) (قرأتُ كِتابَ النحو) (اطّلعتُ على كِتابِ النحو) .
* وعند تجرُّدها من (أل) ومن الإضافة : (هذا كِتابٌ مُفيدٌ) (قرأتُ كِتابًا مُفيدًا) (اطّلعتُ على كتابٍ مُفيدٍ) .

ولكن ثمة حالات خاصة معروفة ، نكتفي منها هنا باثنتين : الأسماء المنقوصة ، والأسماء الممنوعة من الصرف .

-3-

أما الأسماءالمنقوصة ، فهي المختومة بياءٍ مكسورٍ ما قبْلَها ، غيْرِ مُشدّدة .

ومن أمثلتها : (القاضي) و(الداعي) و(المُنادي) و(المهتدي) و(المُوصِي) و(التَّلاقِي) و(التَّنادي) ونحو ذلك .

وحكمها : استثقال ظهور الضمة والكسرة على آخرها (أي : على الياء) ، وإمكانية ظهور الفتحة وحدها :

لنأخذ كلمة (القاضي) على سبيل المثال :

* يقال عند اقترانها بـ (أل) :
- (جاء القاضي العادلُ) : مرفوعة بالضمة المقدرة على الياء .
- (رأيتُ القاضيَ العادلَ) : منصوبة بالفتحة الظاهرة على الياء .
- (سلّمتُ على القاضي العادلِ) : مجرورة بالكسرة المقدرة على الياء .
* وعند إضافتها :
- (جاء قاضي المحكمةِ) : مرفوعة بالضمة المقدرة على الياء .
- (رأيتُ قاضيَ المحكمةِ) : منصوبة بالفتحة الظاهرة على الياء .
- (سلّمتُ على قاضي المحكمةِ) : مجرورة بالكسرة المقدرة على الياء .
* وعند تجرُّدها من (أل) ومن الإضافة :
- (جاء قاضٍ عادلٌ) : مرفوعة بالضمة المقدرة على الياء المحذوفة .
- (رأيتُ قاضيًا عادلاً) : منصوبة بالفتحة الظاهرة على الياء .
- (سلّمتُ على قاضٍ عادلٍ) : مجرورة بالكسرة المقدرة على الياء المحذوفة .

وبَيانُ حذف الياء في الرفع والجرّ هنا : أن الكلمة كان ينبغي أن تُلفظ هكذا [قَاضٍينْ] ، بإسكان الياء لاستثقال ظهور الضمة والكسرة عليها ؛ فالتقى ساكنان (الياء والتنوين) ، فحُذف أوّلُهما (الياء) ، فصارت تُلفظ [قَاضِنْ] ، وتُكتب (قاضٍ) .

-4-

وأما الأسماء الممنوعة من الصرف ، فهي أسماء لا تقبل التنوين ولا الكسر ، في حالة تجرُّدها من (أل) ومن الإضافة ، وتُجَرُّ بالفتحة نيابة عن الكسرة .

وأنواع الأسماء الممنوعة من الصرف مذكورة بتفصيل في كتب النحو المختصة .

ومن الأسماء الممنوعة من الصرف : صِيَغُ منتهى الجموع ، وهي كل صيغة جمع على وزن (مَفاعِل) أو (مَفاعيل) أو ما شابههما ، كـ(أَفاعِل) و(أَفاعيل) و(تَفاعِل) و(تَفاعِيل) و(فَعائِل) ونحو ذلك .

ومن أمثلة ذلك : (مَساجِد) و(صَوامِع) و(شعائر) و(مَحاريب) و(عَصافير) و(أساطير) ونحو ذلك .

لنأخذ كلمة (المساجد) على سبيل المثال :
* يقال عند اقترانها بـ (أل) : (هذه المَساجِدُ عتيقةٌ) (رأيتُ المَساجِدَ العتيقةَ) (مررتُ بالمَساجِدِ العتيقةِ) .
* وعند إضافتها : (هذه مَساجِدُ المدينةِ) (رأيتُ مَساجِدَ المدينةِ) (مررتُ بـمَساجِدِ المدينةِ) .
* وعند تجرُّدها من (أل) ومن الإضافة :
- (هذه مَساجِدُ عتيقةٌ) : مرفوعة بالضمة الظاهرة ، ولا يُنوّن .
- (رأيتُ مَساجِدَ عتيقةً) : منصوبة بالفتحة الظاهرة ، ولا يُنوّن .
- (مررتُ بـمَساجِدَ عتيقةٍ) : مجرورة بالفتحة النائبة عن الكسرة ، ولا يُنوَّن .

ونكرّر القول هنا : إن نيابة الفتحة عن الكسرة إنما يكون في حالة تجرُّد الاسم من (أل) ومن الإضافة ، كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ) [المؤمنون : 17] . أما في حالة اقترانه بـ(أل) أو إضافته ، فيكُون الجرُّ بكسرة ظاهرة ، كما في قوله تعالى : (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عََاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة : 187] ، وقوله : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ) [البقرة : 185] .

-5-

والمشكلة المطروحة الآن : ماذا لو اجتمع الأمْران معا ؟ أي : ماذا لو كانت الكلمة منقوصةً ، وكانت في الوقت نفسه من صِيَغ منتهى الجموع ؟

من أمثلة ذلك : (القَوَافي) (والمَراعِي) و(الجَواري) و(الأماني [إذا لم تُشدد ياؤها]) و(الليالي) ونحو ذلك .

لنأخذ كلمة (القوافي) على سبيل المثال :

*لا إشكال في حال اقترانها بـ (أل) :
- (هذه القوافي جميلةٌ) : مرفوعة بالضمة المقدرة على الياء .
- (أحببتُ القوافيَ الجميلةَ) : منصوبة بالفتحة الظاهرة على الياء .
- (أُعجِبْتُ بالقوافي الجميلةِ) : مجرورة بالكسرة المقدرة على الياء .

* ولا إشكال في حال إضافتها :
- (قوافي القصيدةِ جميلةٌ) : مرفوعة بالضمة المقدرة على الياء .
- (أحببتُ قوافيَ القصيدةِ) : منصوبة بالفتحة الظاهرة على الياء .
- (أُعجِبْتُ بقوافي القصيدةِ) : مجرورة بالكسرة المقدرة على الياء .

* وإنما الإشكال في حال تجرُّدها من (أل) ومن الإضافة ، كما في السؤال المطروح في بداية الموضوع .

-6-

فما حُكم صِيَغ منتهى الجموع المنقوصة ، في حال تجرُّدها من (أل) ومن الإضافة ؟

نواصل تمثيلنا بكلمة (القوافي) :

* أما عند النصب ، فلا مشكلة في ظهور الفتحة على الياء من غير تنوين ، لا بالنظر إلى كون الاسم منقوصا ، ولا بالنظر إلى منعه من الصرف .

نقول : (قرأتُ قَوَافِيَ جميلةً) ؛ منصوبة بالفتحة الظاهرة على الياء .

ومن الشواهد القرآنية على ذلك :
- قولُه تعالى : (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سبأ : 18] .
- وقولُه : (كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) [الزُّمَر : 23] .
- وقولُه : (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) [المرسلات : 27] .

* وأما عند الرفع ، فكونُ الاسم منقوصا يقتضي عدم ظهور الضمة على يائه ، وكونُه ممنوعا من الصرف يقتضي عدم تنوينِه تنوينَ صَرْفٍ .

وهذا يعني أن الأصل يقتضي القول : (هذه قَوَافِي جميلةٌ) . غيْرَ أن العرب استثقلوا بقاء الياء ساكنة هكذا ، فأبدلوها تنوينا ، هُوَ في الحقيقةِ تنوينُ عِوَضٍ ، لا تَنوينُ صَرْفٍ ، فصارت : (قَوَافٍ) .

نقول : (هذه قَوَافٍ جميلةٌ) ؛ مرفوعة بالضمة المقدرة على الياء المحذوفة المعوّض عنها بالتنوين .

ومن ذلك قولُه تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ . وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف : 41] .

* وأما عند الجرّ ، فهُنا المشكلة الكبرى ؛ فكونُ الاسم منقوصا يقتضي عدم ظهور الكسرة على يائه ، وكونُه ممنوعا من الصرف يقتضي جَرَّهُ بالفتحة نِيابةً عن الكسرةِ وعدمَ تنوينِه تنوينَ صَرْفٍ .

ولكن الفتحة هنا مجرّد نائبة عن الكسرة . ومن المقرر في العُرف والمنطق أن سُلطة النائب لا تفوق سُلطة المَنُوب عنه . والكسرةُ في حالتنا لا سُلطة لها على الياء ، فكذلك نائبتُها الفتحة .

ولهذا كان العرب يقدّرون هذه الفتحة على الياء ، ثم يستثقلون بقاء الياء ساكنة ، فيُبدلونها تنوينا ، هُوَ في الحقيقةِ تنوينُ عِوَضٍ ، لا تَنوينُ صَرْفٍ ، فتصير (قَوَافٍ) . وقيل : إن التنوين هنا عِوَضٌ عن الفتحة .

نقول : (يا لها مِنْ قَوَافٍ جميلةٍ) ؛ مجرورة بفتحةٍ نائبةٍ عن الكسرة ، مُقدَّرةٍ على الياء المحذوفة المعوّضِ عنها بالتنوين .


(يُتبع)