مذكرات صحابي من أحد

(صلى الله عليك وعلى آلك يا سيدي يا رسول الله)

اشتد الوقع، حارت الأفئدة.
وقع الظهيرة شديد، يضرب على الدروع الصقيلة والرماح المتهاوية هنا وهناك فيزيد الحريقَ حريقاً.
عيناي تزيغان، والزحام يملأ ما حولي كله، دماء تطيش، ونحور تُدَقُّ.
فجأة أتاني الصوت مذبوحاً: قد أصيب رسول الله.
كأن سيفاً قسم صدري من داخله.
- أيٌعقَل؟؟؟
أنا في وسط المعمعة ، حتى المشركون لا يصلون إلي، فقد علقت وسط صف المؤمنين.
لكنّ الخبر أعادني إلى الواقع من حيث أذهب صوابي.
مذهولاً بدأت أشق طريقي إلى حيث كان رسول الله.
كانوا واهلين، لكن ليس وهل من فقد نبيه وقائده.
شيء من طمأنينة سرى فيّ ، فأكملت الطريق .
نسيت أني في معركة، وأن هناك من يقصدني بسوء ، وأن جيشي فد ارتبك، وأعداءه أطبقوا عليه، كل ما شغل بالي أن يهدأ روعي برؤية رسول الله سالماً.
فجأة بزغ الإشراق في صدري، رأيته، حقاً رأيته، خارجاً كبدر لم ينر الليالي مثله، خارجاً من حفرة، بين علي ابن عمه وطلحة بن عبيد الله ، كانا يعينانه، وكان الدم يغطي وجهه، والتراب يكسو ثيابه.
لكنّ الإشراق، الضياء، كانا ينبعان من وجهه فتنير الأكوان كلها بهما.
فجأة هوى عليه أحدهم من خلفي، التفتّ ورائي فرأيتهم كالغربان وجدت فريسة ضعيفة تنال منها، يتجمعون ويكرون مريدينه بالسوء.
استللتُ سيفي ، دبت فيّ الحماسة على صورة لم أعهدها ، بل جُنّ بي الجنون.
- لن تصلوا إليه يا أعداء الله.
وجدتُني أضرب ولا أبالي، وعلى أني لم أُعهَد مقاتلاً أشوس أنا التاجر المدني، فإن من رأوني ساعتئذ كادوا ينظمون القصائد في وصفي.
لقد صنع مرآه خارجاً من الحفرة بي العجب، وسعادتي بنجاته خلعت علي حماسة ما حسبتني أكنها في صدري، وخوفي عليه وقد أقبلوا بجموعهم الشوهاء جعلني أفقد عقلي بل أرميه، نعم رميتُ عقلي وقاتلتُ بقلبي وحده، بعاطفتي المجردة وحدها.
من قَتلت ؟ ومن أَصبت؟ وهل أُصبت؟ لم أعِ.
لكنني أذكر أنني وسط غمامة من القتال والتراب وأخلاط الخلائق وقعت، ارتطمت بي فرس وارتطمت بأحدهم لا أدري أكان مشركاً أم مؤمناً، فهويت أرضاً، ثم ... ثم ..... ثم ......
لا شيء في عينَيَّ غير الغبار ، ولا شيء أشمه غير رائحة التراب، وشعاع شمسي يلقي على عينَيّ غشاوته.
.................................................. ...
وجدتُني أصحو، لقيت مقابلي وجه أحد المؤمنين، أبصرتْه عيناي المنهكتان.
- أحمد الله على سلامتك يا أُخيَّ
قالها وفمه يفتر عن ابتسامة نقية.
- ما فعل رسول الله؟
تمتمتُ بها وأنا لا أكاد أملك الكلام.
- قد حماه الله وأنجاه ، بيد أننا هُزمنا يا أخي والله.
- - لم نُهزم، لم نهزم ما دام فينا القمر الكلي يسري فينا بنوره، وينير لنا دياجي الحياة وما وراء الحياة.
قلتُها مشدداً على مخارج الحروف رغم حالي، ثم أغمضتُ عينًيَّ ورحت منساحاً في حلم مخملي تملؤه راحة لا شبيه لها، كأنني محمول على أكف الملائكة في مدى سكوني.
لقد نجا رسول الله ، وما دام فينا صاحبُ الوحي قمرُنا الكلي شخصاً أو نهجاً فذلك النصر، وكل نصر من بعده سيأتينا عاجلاً أم آجلاً.