مدخل عام في الأبداع والكتابة الأبداعية

لا تختلف عملية الإبداع في تعريفها على مختلف المجالات وتقرب في جامع من المعنى وهو الشيء الذي يكون أولا على غير سابق هيئة وبذلك يكون الإبداع الأدبي للشاعر
هو إتيانه بمعنى مستطرف جديد نادر لم تجر العادة على لفظه او استخدامه في تركيب لفظي أخاذ ...يحتضن الواقع...
بمعنى ان الإبداع هو نمو فاعل لذات الأديب في تحاوره مع الذات والكون في أبعاده وهو أي الإبداع كشف وتوليد وخلق ويتحقق الكشف من خلال خرق الأطوار لمعروفه والسياقات الموجودة والمألوفه والتوليد هو خلق علاقات جديدة بين الأشياء بواسطة الية الأنزياح ...وسنرى لاحقا تطبيقات لهذا التعريف على ضوء عدة مناهج وقصائد
وعلى هذا يقول سيرجي يسنين
( ماذا يعني أن تكون شاعرا)
أنها تعني : فهما للأمور بتعمق كامل لذاتك بالرقة والحساسية وان يعيش الناس في دمائك يغتسلون في عروق
ويقول الفراهيدي الشعراء أمراء الكلام
هذه حقيقة والدليل ان الشعراء ينهلون من عوالم لا يستطيع الناس العاديين تناولها ولذا هم يعبرون عما لا يمكن التعبير عنه كما يقول اكتوفيوباث

ومن هنا يتضح على الشاعر أن يكون عدسة تلتقط ماغاب وما لايمكن ادراكه من العالم
ووصل الامر باحدهم وهو ريلكه ان يقول ( يجب على الشاعر أن يصبح هو نفسه العالم)

هذا هو واقع الشاعر الحق فالشاعر لا يخضع لاتجاهات المدارس الشعرية بل العكس هو من يطوعها له والشاعر يعيد صياغة الواقع بالمعنى والكلمات ... الكلمات التي تنتجها التجربة الواعية والتجريب الدائب في الرؤية والاشتغال على أسرار اللغة وكشف جزيئات العالم عبر منظومة اللغة
حسنا لنرى الآن ماهية الكتابة والنص الإبداعي ما هو
تنقسم الكتابة الإبداعية الى الى قسمين يقوم الأول منها على توليف الأشياء المشتركة
والمعروفه والثاني على إبداع صور وصيغ لم يعهدها الناس وتكمن قيمة النوع الثاني بانه هو الذي يهب الكاتب هويته وقيمتة ومستواه للوجود الفني ويرى كتاب أمثال شيلي وامرسون ان مدى اختلاف الشاعر عن المالوف في حياة الناس هو من اهم اسباب تقييم الشعراء ولكن لنرى ماهي الكتابة الإبداعية...
الكتابة الإبداعية تستند أساسا على الفكرة والصورة والكلمة والموسيقى والأسلوب في الحقل الشعري فاذا ما كانت في جذرها هكذا فانها بذلك ليس مجرد لغة تعبيرية او كتل من سطور انشائية وانما هي تشكيل جديد يتقدم بمفهوم جديد للكون والانسان ومخاطبة الاخر انها وجود جمالي بتكوينها وإنساني يتبطن الوجود المعرفي مندكا فيه فاذن الكتابة الإبداعيه هي ثورة متجددة وانقلاب يومي ضد المفاهيم الراكدة والسائدة في الذائقة وهي تغيير مستمرللمواقف ازاء التعامل معها مادام الانسان يكتشف كل يوم ذرة جديدة في كيانه النفسي وفي مساحات مجتمعه وتكون قابلية الكتابة الإبداعية هي خلق فضاءات لدى المستقبل..(.وبهذا تكمن هدفية الإبداع بانها غامضة ويظل امرا خاصا مرتهنا بصيغة المبدع نفسه قد يختلف فيها وقد يتفق مع غيره..).غير انني ارى ان غاية الإبداع مندكة في فطرة الانسان على التكامل ..بشتى تطبيقاته وليكن الادب منها والمبدع هو الذي
يكتشف العلاقات الجديدة بين الاشياء والمفردات والنفوس ويدرك الروابط والحلقات المفقودة فيما بينها ....يهدم ويبني ...اذن هو يمارس اعادة خلق وسر أعادة الخلق هو توتره النفسي في عدم القناعة بالمستوى الذي هو فيه موقفا وشعورا وتعبيرا....
ان الإبداع يتحرك وفق منظومة دوافعه فهو يقوم أساسا على فرادة الذات لينقل شيئا جديدا الى الى الاخر منطلقا من ماهومعروف الى حقيقة ماهو موجود في محاولة لتشكيل امرجديد ...ان هدف الشاعر هوالتقاط الحقائق الغير مدركة وجعلها مدركة ...ان المبدع يضيف روحه ومشاعره الى المشهد المعروف ليقدم مشهدا متقوما بفرادة ذاته لكنه يخص الجميع
ولكن لايفهم من هذا ان العمل الادبي هو توليد للذاتيات وتناسل الانا بل هو عملية واعية يقف فيها العقل جنبا الى جنب مع الانفعال والالهام ليصوغ واقعا كليا لامنحصرا في اشكال هند سية الذات انه ان الكتابة الإبداعية هي من يقول قارئها انني الذي قصدت هذا وكانه كاتبها
النص الإبداعي يستند إلى المعجم المعرفي وليس إلى لمعجم اللغوي فالنص هو هيئة المفردة في عالمها الجديد وهي تندرج في السرب الشعري مثلا
هذا لمقطع للشاعر سلمان داود
تركت طيور المعتقدات تعتاش على ارتيابي
فطيور المعتقدات لا يضمه قاموس أو معجم لغوي
انها تنتمي لقاموس معرفة الشاعر في اللغة والوجود
الطريق الى القصيدة صعب جدا...فهي تختبأ في اماكن تباغتنا
وعبثا نحاول أن نستدرجها بأدواتنا العادية
يقول سان جون بيرس
الشعر تأريخ الروح
الكتابة ثورة ولحظة تشكل تأتي بثابت ومتغير
الثابت جوهر الكاتب والمتغيرات هي التجارب في رؤية الذات واللغة ..ومن هنا كانت الفلسفات والرؤى واختلاف الهويات..
إن الشاعر هو عينة مجنونة بهوية النص سرعان مايدحضها الى تشكل اخر ومن هنا تستمر المسيرة في التشكل ضمن معطى الحريات الواعية في خرق البنى والأنساق
تتجه الذائقة ألان إلى الفعل الدلالي في حركية النص
تنزاح اللغة عبر قنوات الحالة الى معاني نفسية ..وعبر ا لحلم الى معاني متوترة وعبر الرؤية تنزاح الى عقلنة الشعر..
الكتابة داخل اللغة مهمة صعبة جدا
أما ربط العلائق بين الأشياء بذكاء لغوي هو فعل وصف وليس فعل شعر
الكتابة في الأشياء هو الشعر المتداول الحالي
للننظر الآن إلى مظفر النواب وهو يمثل شاعرية أشياء

لا تقلب متاعي الحزين أمام الأجانب
فالثياب القديمة مثل البكاء
واخذت الهوية منه
ووجه الهوية مما مسحت الإساءات
لم يبق فيها انتماء
المثال التالي هو شعرية وكتابة داخلة اللغة ولننظر إلى كيفية لي اللغة من عنقها وتطويعها...
سأخذل هذا ( النص)
وأحيط ( المضمون ) بسوء باهر
أتعاطى الصبح بإقبال مشبوه
وأدق على الباب الشرقي ))
سوف يحدث ان تسكن الحكمة في مدخنة
سوف يحدث ان تشتمل الصرخة على طلقتين
سوف يحدث ان تشرق القلوب من الحاويات

يحدث كثيرا ان يقال ان الكاتب يكتب من تجربته الشخصية ..او انه يستخدم خياله ...لكني أرى أن التجربة الشخصية بتعدد ماهياتها ليست أدباً ولا الخيال ... فالتجربة رافد خام والخيال عنصر ارتكازي
أنه خلق جديد بقوة الخيال
ويكون بمثابة عالم انتزاع الأشياء من علاقاتها وإعطائها أدوارا أخرى
ولا يتم هذا إلا بفعل اللغة ... اللغة هي معادل وجودي لعالم الذات ولها مراتب ومستويات ولا يفوتنا أن للغة ككائن منفصل شاعريتها الخاصة بمعزل عن الكائنات الأخرى
فمثلا ذهبت مضامين امرئ القيس وتقنيات لغته فما عاد حصانه المكر المفر المقبل المدبر يثير مذاقات الإنسانية..
اذن المضمون وااللغة كائن متحرك متغير يستجيب للتجريب والحداثة
بينما الشعرية صفة ثابته ملازمة ..وحيث أدرس امرئ القيس فيجب ان أبحث عن أدواته في التعامل مع الأشياء واللغة واترك معانيه لأنها له ومن أفرازات عصره ...بينما اللغة ...الشاعرية ...الخيال ..أحاصرها بالأسئلة

كيف تعمل ..لماذا هكذا ....ما هي كينونتها ...ولما اختلفت...
مازال الشعر عصيا وصعبا جدا ..أما الكم الهائل من الزيف الشعري ومطابع المجاملات على حساب الشعر ...الشعر ذاك الغزال الهارب بعيدا وبعيد جدا جدا
النص الإبداعي هو دالة متحركة عبر الزمن وفي الزمن .. ويكون الشعراء قيم مضروبة في متغيرات التجريب مما ينتج رؤى واتجاهات وقيم لم تظهر في ثوابت النقد القديم
لذا لابد من أعادة النظر في بنية النقد

كي ينهض وثورة الشعر التي لاتهدأ

ليس من المعقول ان ترتد متغيرات الشعر ومبتكراته في اللغة والمعنى الى قناعات الجاحظ حيث يقول بان المعاني موضوعة على الطريق الخ قوله
ولاهي ثوابت الجرجاني
لا ..ليس كل المعاني موضوعه على الطريق ..أذن لما يتوالد الشعراء
لقد ثبت ان الإنسان يجري إلى تكامله ... وكل مرحلة تكامل لها حيثية وعوالم
في الذات والمفهوم لا تنكشف إلا بعد طي الخطوة السابقة وهذا التكامل
يولد لغاته الجديدة ومعانيه الجديدة ..وأشكاله الشعرية الجديدة..
يتولد المعنى من الحركية نحو الشيء والغاية فكيف تسنى للجاحظ بإحاطته بان المعاني وضعت على الطريق...
ليس هناك مسلمات هناك بحث ونقاش وآفاق تتفتح

لنا لقاء بإذن الله بتفصيل ما تقدم وفهرسته وفق الية المباحث المعاصرة درسا ومناقشة وتقويما
بقلم
حيدر الأديب