سباحةٌ بينَ الحروفِ للأديبة كاملة بدارنه
هذا هو الإصدار الثّالث الذي تناقشه ندوة اليوم السّابع المقدسيّة للكاتبة كاملة بدارنه.
وفي هذا الإصدار وضعت الكاتبة بين أيدينا خواطرها وجذواتها الأدبيّة في قوالب رفيعة
المستوى، سامقة الصّياغة، أنيقة الثّوب.
جاءت الكاتبة اليوم بحلّة أدبيّة فريدة، مبنيّة على التّجربة الإنسانيّة، تحملها على أكفّ ثنائيّات
ومقابلات وتناقضات كانت الصّبغة الرئيسيّة التي على أساسها رسمت لوحاتها تلك.
واختارت أن تكون عناوين كثيرة من هذه الخواطر تقوم كذلك على هذا التّصنيف من الثنائيّات،
وكمثال على ذلك :(حزّ السّعادة ووخز التّعاسة)، (بين صفريّة الموجود ومئوية المنشود)،
(اكتمال وتجزئة)، (جنّة الأمانة ونعيم الخيانة)، (جمرة وثلج)، وغيرها.
وكأنّها بذلك تجعل من خواطرها مرآة للحياة القائمة على ثنائيّات مشابهة، كالخير والشرّ،
والنّهار والليل، والحبّ والكره، وما إلى ذلك من مفاهيم.
من يقرأ الإصدار الجديد للكاتبة يجد أنّه أمام كاتبة لديها مخزون لغويّ كبير،
وتمكّنٌ من فصيح القولِ وبليغه، واحترافٍ في صياغة الفلسفة الخاصة بها بأسلوب يعيد للغة احترامها.
فجزالة الألفاظ وتنوّعها شاهدة على ذلك والاشتغال على التّراكيب والصّور،
رغم كثرتها والمبالغة فيها في بعض الأحيان، يؤكّد على مقدرتها على نسجِ وحياكة أثواب الجمال اللغويّ
بيسر وبدون تعقيد، وبعفويّة أعلمها عن الكاتبة.
عنوان هذا الإصدار " سباحة بين الحروف "، هو عنوان أحد خواطرها الجميلة، ولعلّه
كان عنوانا موفّقا لأنّها في أكثر من خاطرة عمدت على تفكيك الكلمات الى حروفها الأوّليّة،
لتعطي لهذه الحروف معانٍ خاصة – حسب تحليلاتها ومختبرها اللغويّ الخاص بها – لتجعل
من هذه الحروف أمواج بحر تسبح خلالها كيفما شاءت، ومطلقة العنان لفكرها أن يغوص
في الأعماق، وتبقى هذه المعاني مجرّد افتراضات اختارتها الكاتبة،
ويمكن أن يفترض كاتب آخر عكس المعنى تماما، وهذا ما فعلته الكاتبة في المعاني التي اختارتها لكلمة " صديق "،
في ( جنّة الأمانة ونعيم الخيانة) عندما تحدّثت عن الصّاد والدّال والياء والقاف في حالة
رضا الصّديق وسخطه، وكيف سبحت بين هذه الحروف مدّا في حالة الحبّ،
وجزرا في حالة السّخط، ولا أظنّ أنّها اختارت تلك المعاني بهدف تحديد دلالة ما للحرف بقدر ما أرادت لهذه
الدّلالة أن تخدم الهدف الذي تريد.
تناولت الكاتبة مفهوم الأمل وماذا يعني لها وتركت للقارئ أن يضع تفسيره الخاصّ كذلك
عندما قالت ( وهو وهو وهو ).
تحدّثت كذلك عن الصّراع الأبديّ بين الخير والشرّ بأوجهه المختلفة، ودخلت إلى دهاليز
النّفس البشريّة سابرة أغوارها بتعقيداتها الجمّة لتصلَ إلى حيث موضع الدّاء وتشخيصه
لوصف الدّواء اللازم والشّافي.
تحدّثت عن الفقد بأنواعه، فقد من رحلوا، وفقد من شاءت الأقدار أن لا يأتوا أبدا، ولعلّ
أكثر ما يؤلم في هذا السّياق ما جاء في خاطرة برّ العقوق من استسلام لمشيئة الأقدار،
واعتبار ذلك بِرًّا لربّ العالمين على حساب عقوق لابن ما عقّ أمّه لأنّ القدر أقعده عن عقّها.
تحدّثت الكاتبة عن أنسنةِ الكلمة وكيف يمكن أن تكون مرهما أو أن تكون سمًّا قاتلا في خاطرتها( كلْمٌ وكلِم).
تحدّثت عن اغتراب النّفس لمن وصفتهم بزهرة اللوتس عندما يشعر أشباهها أنّهم في بيئة لا تنتج إلّا سخاما فكريّا ومسلكيّا.
كثيرة هي الهواجس التي وضعتها أمامنا على مائدة مادت بلذيذ الحروف وازدحمت بفاكهة الكلام،
وكثيرة هي الأمثلة التي عجّ بها الكتاب على جماليات اللغة وذكاء صياغتها وأختار بضع جمل للتّوضيح:
- ص 11: ( محوّما حول نحل أمله، كيْ يحظى بعسله)
- ص 11: ( الأمل حياة من نسج الخيال)
- ص18 : (فقدّموا لك خمرة أجسادهم، في كؤوس الفداء)
ص 24 : ( قد نحسُّ بصفريّتها، لأنّنا نريد مئويّتها)
- ص58 : ( كأنّنا نأمر ديمة مشاعرنا باللحاق بهم، وإغراقهم بمطر محبّتنا)
- ص 58 : (فها هو الموت يخطف منّا عزيزا، ويغّيبه في ساحات الغيب لنشعر بعد حين أنّه يرحل إلينا، وليس عنّا).
- ص59 : ( يرحلُ الحبيب جسدا، وتظلّ الذّكرى دثارا يلفّ جسد المحبّ).
- ص 72 : ( قمْ وارضع الحركة كيْ تعيد للحياة حبوها ثمّ جريها وبهاءها)
ومثل هذا الكثير الكثير، هذا طبعا عدا عن الجذوات التي أختارت أن تكون في القسم الثّاني من الكتاب
لتحتوي على حكم وفلسفات تلخّص تجربة انسانيّة طويلة يظنّ القارئ صاحبتها أنّها بلغت من الكبر عتيّا.
وقد ذكرتنا هذه الجذوات بكتابات الكبار الكبار من كتّابنا العرب،
وليتها أكثرت منها وجعلتها في كتاب خاصّ بالجذوات.
كان واضحا التأثر بالقرآن الكريم والحديث الشريف في طرح أفكارها، وفلسفتها، ومجمل أهدافها،
ورسالتها التي أرادت ان توصلها للقارئ، وهذا ليس غريبا على كاتبة اتخذت من القرآن رداءً ومن الحديث دثارا لسلوكها وحياتها.
كان هناك بعض الاخطاء التي أرسلت الكاتبة تنويها بها معتذرة عن حصولها في مرحلة الطّباعة
وكعادتها تقول لا كمال إلّا لكتاب الله عزّ وجلّ.
وفي الختام أكرّر ملاحظتي التي نوّهت لها في نقاش الإصدار السّابق من أنّ الإكثار من السّجع يوقع الكاتب في التّكلّف
وهذا يؤثّر سلبا على متانة النًصّ وبلاغته، وكذلك هناك تزاحم في التّراكيب في بعض الفقرات
مما أرهق النًّصّ وضيّع شيئا من متعة القراءة وهذه الملاحظة الأخيرة كانت في القليل من الفقرات.
أهنّئ الكاتبة الكبيرة ابنة عرابة البطّوف على هذا الإصدار الجديد والمتميّز فكرا وفلسفة ولغة
وبانتظار الجديد على أن يحمل المزيد والمزيد من مخزون كثير ما زالت الكاتبة تخبّؤه لنا.

بقلم رفعت زيتون
ندوة اليوم السابع المقدسيّة
مسرح الحكواتي -القدس
31 \ 1 \ 2013