من تحت أنقاض الذكريات أُلملم خيباتي، كي أقذفها في ُجبٍ سحيقة، أو أطمرها برمال النسيان بحيث لا تؤوب. ولكن، كيف السبيل إلى ذلك ؟ فهي ملازمة لي حتى في وسادتي، تقاسمني وجباتي، تتغلغل في أعماقي كشجرة صحراوية ما زالت جذورها تنغرس أسافل الأرض بحثاً عن ماء.

تماماً كطفولتي، عندما كنت أختلي بنفسي باكياً بعد ضرب وتعنيفات أبي، أجلس اليوم وحيداً بين سرادق الهدوء، ولواعج الذكريات، أقلب في مخيلتي بعض الأحداث، على يميني منضدة تضم بين دفتيها بعض لوازمها التجميلية وفرشات شعرها التي ما زالت تتكوم حول أسنانها بعضاً من شعراتها السوداء، على الطرف الآخر، تتبعثر فوق طاولة ذات أربع قواعد بعض الكتب وتطل من غلاف إحداها رواية ( فوضى الحواس ). على مسافة قريبة منها ما يزال دفتر يفتح فاه كطائرٍ ظمآن، قد انحشر القلم بين فكيه وتوقف عن الجري فوق صفحاته عند فقرتين من قصة لم يُكتب بعد لها النجاح، أنتعل حذاء الخيبة، أزيل ستار النافذة بعينين شبه مقفلتين، تنفرج أشعة شمس الصباح من بين الستار، لاعقة بضوئها الناعم عتمة المكان، يلتصق أنفي بالزجاج، أرمي ببصري في فناء البيت، نحو حديقة يتوسطها كرسيٌ خشبيٌ مستطيلٌ تظلله ياسمينةٌ متسلقة خضراء، ومن خلف ضباب الشهيق والزفير، يتمثل لي طيفها وهي جالسة هناك وشعرها الغزير ينسدل على كتفيها، ناشرة في الأجواء روح الدعابة والمرح، منتشية بخبر حملها، وأحياناً مزمجرة بغنج عند مناقشاتنا.

- يا فتّاح يا عليم، أصبحنا وأصبح الملك لله الواحد القهار.. صباح الخير يا بني.

- صباح النور.

بشالها الأسود، الذي تنزلق من تحته ضفيرة من شعرها المصبوغ، تشق عتمة الهدوء _ كعادتها كل يوم _ حاملة بين راحتيها صينية تحوي فطور الصباح. تضعها فوق الخوان، ومن خلف نظارتها السميكة ذات الإطار الأسود، تتفحص المكان، تلتقط صورة فتاة من فوق الفراش، تضعها داخل الدرج وتغلقه، ثم تعقّب:

- أما زلت تفكر فيها ؟! انساها يا بني وافتح صفحة جديدة، ولا تحمّل نفسك تبعات ما حصل.

هو نفسه لا يستطيع أن يصدق كيف ذهبت، حاول نسيانها قدر المستطاع دون أن يفلح، كأنها زوبعة عبرت حياته فجأة مخلفة وراءها دمار الذكريات.

أجبتها بعد أن طبعت قبلة فوق جبينها:

- لا تفكري في الأمر يا أماه، أنا بخير، في الحقيقة أني نسيت صورتها فوق السرير، مع بعض الحاجيات، عندما كنت أبحث في الدرج عن دفتر مذكراتي.

هل كان محقاً في ما قال ؟ أم أنه يحاول أن يخفف من قلق أمه ولو بكذبة بيضاء ؟

خطت للأمام وهي تغمز برجلها وفتحت النافذة فتدفق تيار الهواء للداخل، ثم تهالكت فوق أريكة مخملية قريبة.

قالت:
- متى ستنساها ؟

- لا أدري، ربما يكون قدري أن أبقى هكذا.

- أعلم أن ما مررنا به كان صعباً، ولكن، ربما يكون كل ذلك امتحاناً من الله، ليقيس به مدى صبرنا وتسليمنا.

حين تكون الأقدار مكتوبة، لا مناص من الهرب منها، تماماً كتلك الليلة الباردة قبل عام، ورغم التوصيات المتكررة من قبل أمه، والناتجة ربما عن حرصها وخوفها، وقع ما لم يكن في الحسبان.. يتذكر بعضاً من تفاصل الحادث المروع. في ذلك الوقت، من شاهد الأضرار الجسيمة التي لحقت بالسيارة لم يصدق أن ينجو منها أحد، لا يزال مشهد تلك الليلة متوهجاً أمامه، حيث الأمطار التي بللت الأرض، صوت احتكاك الإطارات، تفاديه دهس كلبٍ متشردٍ ظهر فجأة كشبح، ارتطام السيارة بالحاجز الحديدي قبل أن تتدحرج، ثياب ولوازم الأطفال التي تبعثرت داخل وخارج السيارة، والأنكى والأشد، مشهد ( هدى ) والدم ينزف من وجهها، أنينها، يدها التي تتحسس بطنها كالعمياء والدم يغطي عينيها.

مسحت العجوز بناظريها السرير وما حوله، ونهضت ووضعت بعض الثياب في سلة، ثم تحسست بإصبعها الغبار المتراكم فوق المكتبة وشاشة التلفاز وهي تقول في سرها:

- ما هذه الفوضى؟ إن وضعك لا يعجبني، الغرفة بحاجة إلى تنظيف مستمر.. ثم نطقت بعد أن انهارت من جديد فوق الأريكة:

- إلى متى ستبقى على هذا الوضع ؟ أريد أن أطمئن عليك يا بنيّ، أريد أن أرى أحفادي يملؤون البيت قبل أن أوارى الثرى.

عندما تكرر أمي فتح هذا الموضوع، أخلع جلباب المراوغة وأعلقه على مشجب الإنصات. أجبتها بعد صمتٍ وجيز:

- ليس الآن.

- إذاً متى ؟

- لا أعلم.. هل من الممكن أن أجد فتاة لا تتركني في بداية الطريق ؟ في الحقيقة من الصعب جداً أن أتغلب على الظروف التي مرت بي، ومن الصعب أيضاً أن أنسى ( هدى ). لقد تحملت مزاجيتي وعصبيتي، غيرت مجرى حياتي، طوقتني ببرنس حنانها وانتشلتني من بؤر العثرات. كانت مرحة، جميلة، طيبة، نظيفة القلب، لها طموحات كثيرة، ومن الصعب جداً أن أجد مثيلة لها.

- بل توجد، من خلقها قادر على خلق مثلها وأحسن منها. سوف تنسى ( هدى ) تدريجياً مع مرور الوقت عندما ترتبط بفتاة أخرى، ما دمت على هذا الوضع فمن الصعب أن تنساها، اترك الأمر لي، إنها موجودة يا عزيزي.

- من ؟
- ........... وداد.

- وداد!!

- نعم، ابنة خالك ( وداد )، صحيح أنها فتاة في الثلاثين من العمر، ومتوسطة الجمال، ولكنها مؤدبة وذات أخلاق عالية، وتجيد فن الطبخ وإدارة شئون البيت.

نهضت من فوق الكرسي.. تناولت منشفة السباحة.. وقبل أن يبتلعني باب الحمّام، قلت:

- آسف يا أماه، لا أريد أن تموت الثالثة بسببي.